حكومة تطبيق الشريعة التوراتية
جاء النقد الأكثر قسوةً لحكومة نتنياهو الجديدة من الإسرائيليين أنفسهم. وصفتها صحيفة هآرتس بتحالف الزعران (حرفياً). وهناك عشرات المقالات التي لم تترك شتيمةً إلا ورمت نتنياهو بها، فقد تحالف مع أكثر اليمينيين تطرّفاً وعنصرية (بتسلئيل سموتريتش، إيتمار بن غفير)، وهو ما يؤكّد أنه رئيس وزراء ضعيف، وقابلٌ للابتزاز، ناهيك بأنه ألعوبة في يد هؤلاء، وقبلهم زوجته ونجله، ويجر إسرائيل إلى حتفها ونهايتها.
يرى الروائي الإسرائيلي، ديفيد غروسمان، وقد عرفه القارئ العربي من تحقيقه الصحافي الطويل الذي أصدره في كتابٍ تُرجم إلى العربية في 1987 بعنوان "الزمن الأصفر"، وكتب أن انتفاضة الفلسطينيين محتومة، ووقعت فعلاً بعد صدور الكتاب بشهور، يرى أن ما تواجهه إسرائيل ليس حكومةً منتخبةً قامت على تحالف الزعران، بحسب هآرتس، بل إنها تضع إسرائيل نفسها أمام تغييرٍ عميق ومصيري، يمسّ هوية الدولة وطابعها في العمق، وأنها جاءت في خضم فوضى كشفت عن أنيابها أمام ما وصفها بالديمقراطية الأكثر هشاشة في الشرق الأوسط، وسبب الفوضى رجل يلعب بالورقات الثلاث (نتنياهو) الذي يخدعنا ويسلبنا، ليس فقط أموالنا، بل ومستقبلنا ومستقبل أولادنا.
يمثّل غروسمان تياراً صغيراً داخل إسرائيل، يرى أن بإمكان الدولة أن تكون يهودية وعلمانية وديمقراطية وأخلاقية أيضاً، وفيها مكان للأقليات (فلسطينيي الـ 1948)، وجاهزة للتعايش مع دولة فلسطينية في الجوار. لكن هذا التيار يغفل التناقضات الجوهرية في خطابه الذي يبدو ظاهرياً طُهرانياً، ومنها أن إسرائيل هي الدولة الوحيدة، بالإضافة إلى باكستان، التي نشأت جراء تحوّل الدين إلى قومية، وأن النزعة التي أصبحت هوساً مع صعود نتنياهو مسرح السياسة الإسرائيلية إلى جعل الدولة يهودية خالصة تكشف عن عنصريةٍ متوحشة، تناقض أسس الدولة المعاصرة، وأن دولةً يهوديةً وعنصريةً لا يمكنها حتماً أن تكون ديمقراطية إلا إذا كانت نادياً صغيراً ومغلقاً لنخبة من الناس، تقيم في منتجع على جزيرة نائية، فمن شأن الديمقراطية الحقيقية والتنوع العرقي واللغوي القضاء على الدولة النقية التي يريدها اليمين. والأهم أنه لا يستقيم أن تكون ديمقراطياً وأنت دولة احتلال، لكن هذا لا ينفي عمق الانتقادات التي وجّهها غروسمان وجذريّتها وصحتها، فما يحدُث فعلياً هو تغيير في طبيعة الدولة ووظيفتها. هناك قانونا التمييز والتعليم، ومنح وزير سلطة إنشاء مليشيا. وهذا لا يكون إلا على حساب الجيش الذي يتمتع بمكانة خاصة في تاريخ إسرائيل التي قامت على القوة وتمجيدها. ومن شأن نتائج تغييراتٍ كهذه تفكيك الدولة، وإنشاء مجتمعات متنافرة داخل الكيان السياسي الواحد، بما يهدّد وحدته، وقد يقوده إلى حروبٍ أهلية.
من المدهش ملاحظة التالي: كلما أصبحت القيادة الإسرائيلية يمينيةً ومتطرّفة أكثر زاد وهن القيادة الفلسطينية، وأصبحت رخوة أكثر. وفي مقابل التغييرات في البنية المجتمعية الإسرائيلية التي أصبحت توراتيةً أكثر، فإن التيار الإسلامي الفلسطيني يتراجع، ويقدّم خطاباً أقرب إلى العلمانية. ويتزامن هذا مع تفكك بطيء لبنى المقاومة التقليدية (التنظيمات) لصالح مقاوماتٍ فردية تذكّر ببدايات المقاومة الفلسطينية، كأن الفلسطينيين، بعد يأسهم من نخبهم السياسية الحاكمة في الضفة الغربية وقطاع غزة يعيدون بناء أنفسهم، بينما ينحدر الإسرائيليون إلى بنى ما قبل الدولة نفسها، وهذا جيد للفلسطينيين، بل ليس ثمّة ما يخدم الفلسطينيين أكثر من حكومة إسرائيلية كهذه، تقول للعالم إن الدولة التي لم يكفّ الغرب عن دعمها منذ أكثر من سبعة عقود لم تعد "الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط"، بل مجرّد "دولة أخرى في الشرق الأوسط"، تحكمها نخبة فاسدة، لا يرى بعض أفرادها بأساً في إلزام الإسرائيليين بتطبيق الشريعة اليهودية، وعدم علاج الأغيار أو مشاركتهم الطعام.
.. كأننا أمام حكومة دينية تتخلق أمامنا، وهي ليست "طالبان" أو إيران بالمناسبة، بل إسرائيل التي تمتلك عشرات القنابل النووية في ترسانتها العسكرية، لحماية وجودها كما تدّعي، ونموذجها الديمقراطي الوحيد في المنطقة!