حكومة القناصل في اليمن
يأتي تشكيل الحكومة اليمنية محصلة للتوافق السعودي - الإماراتي في إدارة اليمن، أكثر من كونها توافقا بين الأطراف المحلية المتصارعة، وهو ما يجعل الحكومة تحتكم، في توجّهاتها المحلية والإقليمية، للاشتراطات السعودية - الإماراتية، إذ تفرض التوليفة المركّبة والمتناقضة التي تشكلّت وفقها الحكومة، وفقا لآلية تسريع تنفيذ اتفاق الرياض، تحدّياتٍ خطيرة، ربما أهمّها تكريس الصراع بين قوى متعارضةٍ من حيث الأهداف والغايات السياسية، إذ يجعل التمثيل القائم على المحاصصة السياسية التناقضات العميقة بين القوى المكونة للحكومة تطغى على أي توازناتٍ شكليةٍ فرضها توافق الضرورة، وهو ما قد يعطّلها في ظل أي تصعيد سياسي من أطرافها، خصوصا في ظل امتلاكها أذرعا عسكرية، بما في ذلك توظيف تمثيلها في الحكومة غطاءً سياسيا لتعميق مراكز نفوذها. ومع أن تشكيل حكومة توافق الضرورة مكّن بعض القوى المحلية من فرض استحقاقها السياسي قوى شرعية، فإن تشكيل الحكومة الحالية، من حيث ولائها السياسي، بما في ذلك توقيتها، يصبّ في صالح القوى الإقليمية المتدخّلة في اليمن، وليس في صالح اليمنيين.
صياغة سلطةٍ محليةٍ وفق سياقاتٍ لا وطنية، أنتجتها أجندات الدول المتدخلة في اليمن، يعكس إرادة الغلبة في تصعيد قوى محلية، وتقييد أخرى، كما أن فرض التمثيل السياسي في الحكومة وفق المحاصصة يحتّم فشلها، مع فشل تجارب المحاصصة السياسية في حكوماتٍ يمنيةٍ سابقة، فيما يكرّس توزيع الحقائب الوزارية على أساس جغرافي الصراع المناطقي على السلطة، وهو ما يحدّ من قدرتها على تطبيع الأوضاع السياسية والاقتصادية في المناطق المحرّرة، وعدا عن تحجيم سلطة الرئيس، عبد ربه منصور هادي، في الحكومة الحالية، فإن التشكيل الحكومي ضاعف من نفوذ الدول المتدخّلة، بحيث أصبح هو المعيار في اختيار الوزراء، لا المؤهلات، سواء باستمرار الشخصيات الموالية للسعودية والإمارات، كوزير الإعلام، معمر الإرياني، المتحدّث باسم السعودية أكثر منه متحدّثا باسم الحكومة اليمنية، بما في ذلك رئيس الوزراء، معين عبدالملك، رجل التوافق السعودي -الإماراتي، أو تعيين أحمد عوض بن مبارك، المقرّب من الدوائر الأميركية والسعودية، وزيرا للخارجية، وهو ما يجعل الحكومة الحالية خاضعةً لإملاءات السعودية والإمارات. ومن جهةٍ أخرى، خضع توزيع نِسب التمثيل بين القوى والأحزاب في الحكومة لثقلها العسكري، في مقابل تمثيلٍ أضعف لقوى وأحزاب أخرى، قد تشكّل عامل ترجيح لقوى على حساب أخرى، كما أن اختيار الشخصيات الوزارية يكشف عن عدم جدّية فرقاء الصراع حيال دورها في الحكومة، إذ أعادت تدوير بعض الشخصيات المتّهمة بالفساد، ومن ثم فإن أهمية هذه الحكومة التي لا تحلّ ولا تربط تنحصر في النتائج السياسية المترتبة عليها.
صياغة سلطةٍ محليةٍ وفق سياقاتٍ لا وطنية، أنتجتها أجندات الدول المتدخلة في اليمن، يعكس إرادة الغلبة في تصعيد قوى محلية، وتقييد أخرى
بوصفها راعيا رسميا لاتفاق الرياض، نجحت السعودية في الضغط على الرئيس هادي لإعلان الحكومة، من خلال الدفع بالعملة الوطنية في المناطق المحرّرة إلى الانهيار، ومفاقمة الأزمة الاقتصادية على المواطنين. ومن جهة أخرى، تسويق تنفيذها الشق العسكري من اتفاقية الرياض، من خلال إحلال قوات محلية في مدينة أبين، قوات فصل بين قوات المجلس الانتقالي الجنوبي وقوات السلطة الشرعية، إلا أن الإجراءات السعودية تحايلت على تنفيذ الشقّ العسكري، الذي كان من شأنه تجفيف منابع الصراع لصالح تكريسه، إذ عمدت إلى نقل قوات العمالقة من جبهة الساحل الغربي الموالية للمجلس الانتقالي الجنوبي والقوات الموالية للرئيس هادي، وإحلالها بدلا عن القوات التابعة للطرفيْن في منطقة التماس في جبهة مدينة أبين. وعدا عن إفراغ منطقة الساحل الغربي من قوات العمالقة السلفية لصالح تعاظم نفوذ قوات العميد طارق محمد صالح، فإن الإجراءات السعودية لا تختلف، في نتائجها العسكرية، عن تنفيذ اتفاقية الحديدة التي قضت بتسليم جماعة الحوثي المواقع لقوات خفر السواحل الموالية لها (السعودية)، الأمر الذي يتوافق مع استراتيجية المملكة في إدارة الحرب في اليمن، والتي تعتمد على ترحيل المشكلات لا حلها، وتكريس سياسة توازن الرعب بين حلفائها المحليين، للسيطرة عليهم وإخضاعهم لأجنداتها.
يرتبط تسريع السعودية بتشكيل حكومة الفرقاء من دون نزع فتيل الصراع بين حلفائها بحاجتها الملحّة لنصر سياسي، وإن كان على الصعيد الإعلامي، وذلك لاستباق تولي الرئيس الأميركي المنتخب، جو بايدن، وترتيب وضعها في اليمن، مع أي تطوراتٍ تفرضها الإدارة الأميركية الجديدة، بحيث لن تخرج السياسة السعودية ما بعد اتفاق الرياض عن خيارين: أن يكون تشكيل حكومة حلفائها خطوةً محوريةً في سياق فرض تسويةٍ مشابهة مع جماعة الحوثي في إطار التسوية النهائية، مقابل ضماناتٍ دوليةٍ عدم اعتداء الحوثيين على حدودها، وفق التوازنات التي قد تفرضها إدارة جو بايدن، أو أن تنتهج الخيار الإماراتي في إدارة الصراع في اليمن، أي تقليص وجودها العسكري في اليمن، مع إبقاء قواتها في مناطق الثروات في جنوب اليمن والمحافظات الشرقية، بما في ذلك جزيرة سقطرى ومدينة المهرة، تماماً كتموضع القوات الإماراتية في مناطق الثروات، مقابل اكتفائها بتمويل القوات المحلية الموالية لها في جبهات القتال ضد جماعة الحوثي. وفيما من الصعب التكهن بالخيار الذي ستلجأ إليه السعودية في المستقبل، إلا أن كلا الخيارين مناسبان لأجنداتها في اليمن.
قد يكون هادي أكبر الخاسرين من تشكيل الحكومة الحالية، إذ سلّم أمره لحلفاء غير مأموني الجانب، ولا يمكن التكهن بولائهم
بانخراطه في الحكومة الحالية، استطاع المجلس الانتقالي الجنوبي، ومن ورائه حليفه الإقليمي، الإمارات، من تحقيق جملةٍ من المكاسب السياسية. اكتسب اعترافا دوليا، بوصفه قوة سياسية تمثل جنوب اليمن، سواء في الحكومة الحالية أو في مشاورات الحل النهائي مع جماعة الحوثي. ويمكّنه انخراطه في الحكومة من تنمية نفوذه السياسي في مفاصل الدولة، وتحت غطاء السلطة الشرعية. كما أنه استطاع، من خلال تجاوز تنفيذ الشق العسكري لاتفاق الرياض، وتواطؤ السعوية في ذلك، الاحتفاظ بقواته العسكرية الموالية له في مناطق الجنوب، والتي تشكّل أداة ضغط ضد خصومه، في حال تعارض أداء الحكومة مع مصالحه؛ ومع محاولة القوى الجنوبية المنافسة له في الشارع الجنوبي، والمنادية بالاستقلال عن شمال اليمن، نزع الشرعية عنه ممثلاً عن الجنوب، فإنه ومن خلال قواته العسكرية، يستطيع تحجيمها وتكريس سلطته ممثلا عن الجنوب.
يرتبط تسريع السعودية بتشكيل حكومة الفرقاء من دون نزع فتيل الصراع بين حلفائها بحاجتها الملحّة لنصر سياسي
ويبدو أن الرئيس اليمني، هادي، قد يكون أكبر الخاسرين من تشكيل الحكومة الحالية، إذ سلّم أمره لحلفاء غير مأموني الجانب، ولا يمكن التكهن بولائهم، فبالإضافة إلى فقدانه أهم الشخصيات المؤيدة له والمعارضة للأجندة السعودية - الإماراتية في التشكيل الوزاري الحالي، وزير الداخلية السابق، أحمد الميسري، بثقله القبلي والاجتماعي في بعض مناطق الجنوب، وكذلك فشل الرئيس هادي في فرض رجل الأعمال المقرّب له، أحمد العيسي، وزير داخلية. وهو لن يستطيع فكّ ارتباطه بحزب التجمع اليمني للإصلاح، قوة سياسية وعسكرية مؤيدة له، وإنْ لها أجنداتها وأولوياتها المختلفة، بحيث تمسّك بوزير الدفاع الموالي لحزب الإصلاح، الفريق محمد المقدشي، ضمن حصته في الحكومة، على الرغم من الاختلالات الكارثية التي شابت هذا الرجل، ومن جهة أخرى، تعيينه وزير الخارجية، أحمد عوض بن مبارك، ضمن حصته في الحكومة الحالية، كون طموح الأخير يجعل ولاءاته السياسية متغيرة. ومع محاولة الرئيس هادي المناورة، من خلال إقحام قوى صغيرة في التشكيل الحكومي، ممثلاً بمؤتمر حضرموت الجامع وممثل سقطرى والمهرة، وتتقاطع طروحاتهما السياسية مع طروحات الرئيس هادي، فيما يخصّ اليمن الاتحادي، فإن نزع صلاحياته في حكومةٍ تشكّلت وفق الإرادة السعودية - الإماراتية، يجعله في مربّعٍ حرج، خصوصا في حال اتفق خصومه وحلفاؤه على إزاحته مع اقتراب أي تسويةٍ شاملة.
في توليفةٍ سياسيةٍ غرائبيةٍ لحكومةٍ مفروضةٍ من الرياض، وتحت وصاية القنصل السعودي، والإماراتي، تبدو احتمالاتها في البقاء مرتبطة بمصالح هذه الدول، ووكلائها في اليمن، وليس بمدى انسجامها السياسي وامتلاكها رؤية واضحة تخفّف معاناة اليمنيين في المناطق المحرّرة، بحيث لن تخرج في سياستها عن كونها مظلةً باهتةً لإدارة مصالح القوى المتدخلة في اليمن، وإن بدا الأخوة الأعداء في حكومة توافق قسري، كضباع تتحيّن الفرصة للانقضاض على بعضها بعضا، متى ما أراد الآباء الإقليميون ذلك.