حكومة الدبيبة الليبية .. حيثيات التشكيل وتحدّيات الإنجاز

16 مارس 2021

عبد الحميد الدبيبة يتحدث للصحافة في طبرق (15/3/2021/ فرانس برس)

+ الخط -

صوّت مجلس النواب الليبي، في 10 آذار/ مارس 2021، لصالح منح الثقة للحكومة الانتقالية التي يرأسها عبد الحميد الدبيبة. وجاءت الموافقة على الحكومة بعد مشاورات انطلقت إثر اختيار ملتقى الحوار السياسي الليبي، في جلسته في جنيف، محمد المنفي، رئيسًا للمجلس الرئاسي، وعبد الحميد الدبيبة رئيسًا للوزراء، في الـخامس من شباط/ فبراير 2021. وعلى الرغم من نجاح الدبيبة في اختبار تشكيل فريقه الحكومي في الآجال المحدّدة، وفي نيل ثقة البرلمان، فإن أسئلة عديدة تُطرح عن قدرة الفريق الحكومي على تطبيق خريطة الطريق التي أقرها الملتقى، وتمهيد الطريق لإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية في 24 كانون الأول/ ديسمبر 2021.

حيثيات التشكيل وخلفياته

انطلق عبد الحميد الدبيبة، حال اختياره رئيسًا للحكومة، في إجراء اتصالاتٍ ومشاوراتٍ مع أطراف قبَلية وسياسية وشخصيات اجتماعية ورجال أعمال وقادة تشكيلات عسكرية لاختيار فريقه الحكومي. وقد اضطر، في مناسبتين، إلى تأجيل إعلان أسماء فريقه الحكومي، بسبب خلافاتٍ حولها، وظلت الضغوط قائمة إلى اليوم الأول من جلسة منح الثقة، حين رُفعت الجلسة بعد افتتاحها، بقليل، ورضخ لاعتراضات عدد من النواب، وأجرى تعديلًا على تشكيلة حكومته؛ استبعد، بمقتضاه، عمر تنتوش، القريب من اللواء المتقاعد خليفة حفتر، من وزارة الاقتصاد، ولمياء بوسدرة المحسوبة على حزب الوطن من وزارة الخارجية؛ وذلك لتفادي انهيار العملية برمتها، وحتى لا يضطر إلى التوجه إلى ملتقى الحوار السياسي لنيل الثقة، بدلًا من البرلمان، كما تنصّ خريطة الطريق التي أقرها ملتقى الحوار السياسي.

ومثّل المعطى القبَلي والجهوي أحد أبرز التحدّيات التي اعترضت الدبيبة، وظهر ذلك، جليًا، في التشكيلة التي عرضت على البرلمان؛ إذ بدت الخلفية الجهوية معيارًا واضحًا، اعتمد في توزيع الحقائب الوزارية، وهو المعيار الذي تم، على أساسه، اختيار الدبيبة نفسه ونائبيه. وإضافة إلى ذلك، أكّد الدبيبة جملة من الشروط الواجب توفرها في المرشحين: أبرزها قدرتهم على التنقل إلى مناطق ليبيا كافة، وعدم توليهم أي مناصب وزارية بعد 2011.

مثّل المعطى القبَلي والجهوي أحد أبرز التحدّيات التي اعترضت الدبيبة، وظهر ذلك، جليًا، في التشكيلة التي عرضت على البرلمان

وقد ضمت حكومة الدبيبة التي نالت ثقة مجلس النواب 27 وزيرًا و6 وزراء دولة؛ بينهم 5 نساء، تولت اثنتان منهما وزارتين سياديتين؛ هما نجلاء المنقوش في الخارجية وحليمة البوسيفي في العدل؛ وهي المرة الأولى التي تتولى فيها نساءٌ وزاراتٍ سياديةً منذ الاستقلال. ويفسر لجوء الدبيبة إلى خيار تشكيل حكومة موسعة لتسيير مرحلة انتقالية دقيقة ومحدودة باضطراره إلى إرضاء مختلف الأطراف، لضمان منح فريقه الثقة. لكنه يثير مخاوف من أن يؤدّي ذلك إلى الترهل والحد من الفاعلية، في وقت تحتاج فيه البلاد إلى فريق حكومي متجانس ومحدود العدد، ينكبّ على الملفات ذات الأولوية: كتوحيد الأجهزة الأمنية والعسكرية ومأسستها، ومعالجة ملفات الخدمات؛ وفي مقدمتها الكهرباء والمياه، وحل أزمة السيولة، وتحسين الخدمات الصحية والتصدي لجائحة فيروس كورونا المستجد (كوفيد - 19). ولم يخف الدبيبة نفسُه طبيعةَ المآزق والضغوط التي صاحبت تشكيل الحكومة؛ فقد اعترف بأن اختياره اقتصر على وزيرٍ واحد، بينما تم اختيار البقية بناءً على تزكياتٍ من النواب، وأنه تلقى أكثر من ألفَي سيرة ذاتية لشخصيات مقترحة لتولي حقائب وزارية.

وقد احتفظ الدبيبة بمنصب وزير الدفاع مؤقتًا، معترفًا بأن "هنالك أزمة في تسمية من يتولى حقيبة الدفاع من منطقة بعينها"، غير أن مؤشّرات عدة تؤكد أن حسابات خليفة حفتر وموقعه في المشهد السياسي والعسكري المقبل كانت سببًا مهمًا ومباشرًا لتأجيل الحسم في اسم الشخصية التي تتولى هذه الحقيبة، وأن الدبيبة تحاشى فتح ملفٍّ معقد قد يعرقل التوصل إلى اتفاق؛ ما يدل على أن حفتر يبقى عقبةً في الطريق إلى تشكيل جيش موحد مستقبلًا.

مواقف داخلية ودولية مرحبة

على الرغم من الصعوبات التي واجهت تشكيلها في أثناء جلسة منح الثقة في مجلس النواب، فقد حصلت حكومة الدبيبة على أغلبية كبيرة؛ إذ صوّت لصالحها 132 نائبًا من جملة 133 نائبًا حضروا الجلسة المنعقدة في سرت. وبصرف النظر عن دوافع هذا الإجماع، وعما إذا كان سببه خشية النواب من تهميش دورهم في حال اضطر الدبيبة إلى نيل الثقة من أعضاء ملتقى الحوار السياسي، فإن من شأن هذه النسبة العالية من أصوات النواب أن تزيد من رصيد شرعية الحكومة، داخليًا وخارجيًا. وفي السياق ذاته، تميّزت ردود الأفعال الصادرة عن مختلف الأطراف الداخلية في ليبيا بالترحيب بمنح الحكومة الثقة، وبالتعهد بمد يد المساعدة لها للقيام بمهماتها وبالتفاؤل بالمرحلة السياسية المقبلة، فقد بارك رئيس المجلس الرئاسي الحالي، فايز السراج، حصول حكومة الدبيبة على ثقة النواب، وأبدى "كامل الاستعداد لتسليم المهام لها"، معتبرًا ما تم "خطوة مهمة لإنهاء الاقتتال والانقسام"؛ كما بارك رئيس المجلس الأعلى للدولة، خالد المشري، الخطوة، معربًا عن أمله في "الوصول إلى الهدف المنشود وهو إجراء الانتخابات في موعدها المتفق عليه". أما رئيس مجلس النواب، عقيلة صالح، فقد وصف منح حكومة الدبيبة الثقة بـ "اليوم التاريخي".

اعتبرت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا التصويت على حكومة الدبيبة "فرصة حقيقية للمضي نحو الوحدة والاستقرار والمصالحة واستعادة ليبيا سيادتها"

وعلى المستوى الدولي، اعتبرت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا التصويت على حكومة الدبيبة "فرصة حقيقية للمضي نحو الوحدة والاستقرار والمصالحة واستعادة ليبيا سيادتها بالكامل". وشدّد مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة على "أهمية توحيد المؤسسات الليبية"، داعيًا "جميع السلطات والجهات الفاعلة في ليبيا لضمان تسليم سلس لجميع الاختصاصات والواجبات إلى الحكومة المؤقتة الجديدة". ورحبت الولايات المتحدة الأميركية والمملكة المتحدة وألمانيا وفرنسا وإيطاليا بمنح حكومة الدبيبة الثقة، وشدّدت في بيان مشترك على "ضرورة التنفيذ الكامل لقرار وقف إطلاق النار"، و"انسحاب كل المقاتلين الأجانب والمرتزقة من الأراضي الليبية". كما رحبت كل من تركيا وروسيا وجامعة الدول العربية واتحاد المغرب العربي وقطر وتونس والجزائر والمغرب ومصر والإمارات والأردن والسودان وسلطنة عمان بمنح حكومة الدبيبة الثقة.

رأب الانقسام وسؤال الشرعية

شهدت ليبيا، منذ مطلع عام 2014، تاريخ إطلاق حفتر عملية الكرامة، انقسامًا سياسيًا ومؤسساتيًا حادًا، ظهرت، بموجبه، مؤسساتٌ تنفيذيةٌ وسياديةٌ موازيةٌ في المنطقة الشرقية، على غرار الحكومة الليبية المؤقتة، بمختلف وزاراتها، في البيضاء، ومصرف ليبيا المركزي في بنغازي، و"القيادة العامة للقوات المسلحة" في الرجمة. كما اتخذ النواب المحسوبون على معسكر حفتر من مدينة طبرق مقرًا لمجلس النواب، واختار آخرون مقاطعة أعمال المجلس، قبل انتقال ما يقارب نصف النواب إلى طرابلس، لعقد جلساتهم فيها عقب الهجوم الذي شنّته قوات حفتر على العاصمة والمنطقة الغربية، سنتي 2019 و2020. وعلى الرغم من اعتراف الأمم المتحدة ومعظم الدول بالمجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني، بقيادة فايز السراج، عقب توقيع الاتفاق السياسي الليبي في الصخيرات، عام 2015، بصفته السلطة التنفيذية الشرعية الوحيدة في ليبيا، فقد تواصلت حالة الانقسام والتشظّي، وظلت مختلف الأجهزة الموازية في المنطقة الشرقية قائمة. وعمّق عجزُ مجلس النواب عن تحقيق النصاب الكافي لعقد جلسة للنظر في منح حكومة الوفاق الثقة بمقتضى اتفاق الصخيرات، وتحالفُ رئيسِه عقيلة صالح ونوابٍ آخرين مع اللواء حفتر، هوّةَ الانقسام السياسي والمؤسساتي في البلاد. وفي الأثناء، ساهمت السياسة النقدية للمصرف المركزي الموازي في بنغازي، الذي عمد إلى ضخ مبالغ ضخمة من الدينار الليبي في السوق بعد طباعتها في روسيا، في تدهور قيمة الدينار مقابل العملات الأجنبية وارتفاع مؤشّرات التضخم؛ ما أدّى إلى تعميق الأزمة الاقتصادية والمعيشية في البلاد. وفي السياق ذاته، ظلت حكومة الوفاق الوطني عاجزةً عن بسط سيطرتها على كامل المنطقة الشرقية، وأجزاء من المناطق الوسطى والجنوبية والغربية، واضطرّت قواتها إلى التراجع إلى تخوم العاصمة طرابلس في الأشهر الأولى للهجوم الذي شنته قوات حفتر في نيسان/ أبريل 2019.

توحيد الأجهزة الشرطية والعسكرية ومأسستها تحت إدارة السلطة التنفيذية، وحصر السلاح في يد الدولة، وإخراج المقاتلين الأجانب من البلاد؛ شروطٌ يصعب تحقيقها في الأفق الزمني المعطى للحكومة

وعلى الرغم من أن المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني يُعدّ السلطة الشرعية الوحيدة في ليبيا، بمقتضى اتفاق الصخيرات الذي رعته الأمم المتحدة، وقوبلت مخرجاته باعتراف دولي واسع، فإن ذلك لم يمنع القوى الإقليمية والدولية، وبعض دول الجوار، من التعامل مع حفتر والحكومة الليبية المؤقتة في البيضاء برئاسة عبد الله الثني ومختلف الأجهزة الموازية في المنطقة الشرقية، وتقديم الدعم لها، وإلزام حكومة الوفاق الوطني برصد الاعتمادات المالية للحكومة الموازية، ودفع رواتب الموظفين العاملين في المؤسسات التابعة لها والمنتسبين المجندين في الأجهزة الأمنية والعسكرية التابعة لحفتر.

تحدّيات في الانتظار

يمثّل توحيد المؤسسات تحت سلطة تنفيذية واحدة تحدّيًا كبيرًا أمام الدبيبة وفريقه الحكومي. فعلى امتداد السنوات الست الأخيرة، كُرّس الانقسام السياسي والمؤسساتي، وتحوّل إلى أمر واقع، يتطلب تجاوزه إرادة سياسية صلبة، وانسجامًا في الخطاب السياسي بين مكونات الحكومة ومختلف الفرقاء، واستعدادًا للتنازل عن المغانم السياسية والمادية والجهوية التي تم تحصيلها بفعل الاستثمار في الانقسام، والتزامًا إقليميًا ودوليًا واضحًا بالتعامل مع حكومة الدبيبة والمجلس الرئاسي الجديد بصفتهما السلطة التنفيذية الشرعية الوحيدة في ليبيا. وما زالت الوحدة توافقيةً تقوم على محاصصة مناطقية؛ ومن ثم فهي مهدّدة باعتبارات التوافق ذاته التي قد تختل في أي وقت، وتؤدّي إلى الافتراق. ومن هنا، أهمية تعزيز الوحدة الوطنية التي تقوم على الانتماء إلى ليبيا، وليس إلى كيانات دون وطنية، ولا سيما في مؤسسات الدولة غير السياسية. ويجب التخلص من المحاصصة في مؤسسات بيروقراطية الدولة غير المنتخبة على الأقل في أسرع وقت، بحيث تقوم على اعتبارات موضوعية، مثل الكفاءة والجدارة والعرض والطلب وغيرها.

صيغة الحكومة الموسعة وتعقّد الملفات الأمنية والاقتصادية ليستا المصاعب الوحيدة التي تلقي بظلال الشك على الوصول إلى انتخابات عامة في نهاية عام 2021

وتمثّل الاستحقاقات الأمنية والاقتصادية والخدمية ملفًا آخر معقدًا، ينتظر الدبيبة وحكومته؛ وهو من الملفات التي محضتها خريطة الطريق أهمية بالغة لدورها في تهيئة السياق لتنظيم الانتخابات العامة. فالتقدّم في الملف الأمني مشروط، أساسًا، بتوحيد الأجهزة الشرطية والعسكرية ومأسستها تحت إدارة السلطة التنفيذية، وحصر السلاح في يد الدولة، وإخراج المقاتلين الأجانب من البلاد؛ وهي شروطٌ يصعب تحقيقها في الأفق الزمني المعطى للحكومة، لتعقدها ولحسابات بعض أطراف النزاع وارتباطاتها الإقليمية. أما الملف الخدمي والاقتصادي، فيبدو، على الرغم من تراكم أزماته، قابلًا للحلحلة النسبية في حال استقرار إنتاج النفط، ونجاح المساعي الجارية، حاليًا، لتوحيد المصرف المركزي، والتصديق على الميزانية الموحدة.

صيغة الحكومة الموسعة وتعقّد الملفات الأمنية والاقتصادية ليستا المصاعب الوحيدة التي تلقي بظلالٍ من الشك على قدرة حكومة الدبيبة على الوصول إلى انتخابات عامة في نهاية عام 2021؛ إذ من المتوقع أن تمثّل العقبات القانونية والدستورية عقدة أخرى في طريق الخروج من الأزمة، فإجراء الانتخابات يتطلب قاعدة دستورية وقانونًا انتخابيًا، كما يتطلب تضمين خريطة الطريق التي أقرّها ملتقى الحوار السياسي في الإعلان الدستوري لتفادي أي طعن في شرعية المجلس الرئاسي والحكومة. وحتى إن اكتسبت الحكومة الشرعية بمفعول الثقة التي منحها إياها مجلس النواب، فإن المجلس الرئاسي لا محلّ له في المشهد المؤسساتي والتنفيذي، من دون دسترة خريطة الطريق التي أقرته بتركيبته الجديدة.

خاتمة

بعد شهر من اختيار ملتقى الحوار السياسي الليبي رئيسًا للحكومة، ومجلسًا رئاسيًا جديدًا، تمكّن عبد الحميد الدبيبة من تشكيل فريقه الحكومي، واجتياز اختبار منح الثقة في مجلس النواب بأغلبية تقارب الإجماع. لكن هذا النجاح والتفاعل الإيجابي الذي قوبل به، داخليًا وخارجيًا، لا يقلّل العقبات الماثلة في طريق حكومته، المطالَبة بإنجاز حزمةٍ من الاستحقاقات الأمنية والاقتصادية والخدمية والتشريعية في حيز زمني ضيق. ويعتبر خيار الحكومة الموسّعة، الذي لجأ إليه الدبيبة لإرضاء مختلف الأطراف، ومحدودية التجربة التسييرية لمعظم الوزراء، من العوامل التي قد تحدّ من انسجام الفريق الحكومي وفاعليته، بينما تُنذر الأزمات الأمنية والاقتصادية والخدمية المركبة والمتراكمة بخلق عقبات تعرقل المضي في تنفيذ خريطة الطريق بسلاسة لبلوغ الانتخابات العامة في نهاية عام 2021، وقد تفتح الباب أمام مساراتٍ مختلفةٍ عما أقرّه ملتقى الحوار السياسي؛ ما يفرض على مختلف الأطراف تغليب خيار التوافق وتقديم تنازلات متبادلة؛ ذلك أنه ليس هناك بديل من المسار السياسي، إلا العودة إلى الاقتتال، وهو خيارٌ كارثي، لا يجوز التفكير فيه.