حكاية ألفناها على الهواء مباشرة

08 ابريل 2018
+ الخط -
مع تقدّم العمر، والتجربة الحياتية، يصبح تأليفُ الحكاية الأدبية، أو القصة القصيرة، أمراً سهلاً، ولا سيما إذا كنتَ تؤلف حكايتك في سهرةٍ عامرة بالمرح، والضحك، والتنكيت، وأن يكون التأليف عفوياً، بمعنى أنك لا تؤلف بقصد النشر في الصحف، والوقوف في حضرة القرّاء. فمثلاً، قبل أيام، سألني الصحافي عدنان عبد الرزاق، وكان معنا في السهرة الإعلامي محمد علاء الدين، عن الكيفية التي حصلتُ بها على شهادة العلوم الاقتصادية في السبعينيات، وقال بأسلوب مُلَغَّم: يعني، هل كان دخول الجامعة يحدث، في أيامكم، على أساس شهادة التعليم الابتدائي؟
لم تضايقني المزحة، ولذلك لم أنفِ فكرته المتعلقة بالقفز فوق الشهادات، كما يفعل عباقرة عائلة الأسد الذين يحصلون على الدكتوراه بعد الشهادة الإعدادية مباشرةً، أو أن يكون الواحدُ منهم يرعى الجدايا بين الصخور (الرعوشِ)، فيأتي حفيدُه راكضاً ويقول له: مبروك يا جدي، أنت صرت دكتورا، مثلما حصل مع الدكتور رفعت الأسد. بل حكيتُ لعدنان ومحمد حكايةً ألفتُها في اللحظة نفسها، تقول إن المرحوم والدي، بعد حصولي على السرتفيكا، قرّر تبطيلي من المدرسة والتفرّغ لرعي العنزات. وحينما سئل عن السبب، قال إن مستواي العلمي، بحسب العلامات التي حصلتُ عليها، يوحي بأنني لن أكون تلميذاً نابغاً فيما لو تابعتُ تعليمي، بينما يُعطي رعيي العنزاتِ مردوداً مباشراً يعود على الأسرة بالخير العميم، متمثلاً في السطول الملأى بالحليب، واللبن، والجبن، والقريشة، والهكط، والدبيركة.
تتمة الحكاية أنني ذهبتُ باكياً إلى خالي أبو صالح، وحلفت له بالله العظيم على أن تَدَنّي علاماتي في السرتفيكا ليس نتيجة غبائي وكسلي، وإنما بسبب ميلي إلى اللعب على البيادر، واللعب بالعصمينة، والوقوف بوضعية الكولار في الفريق الذي يقوده رفيقي أبو محمود، ويلعب فيه قلب الهجوم رفيقي أبو قاسم. ومن كثرة ما شكيت وبكيت أمام خالي أبو صالح، غرغرتْ عيناه بالدمع، وسحبني من يدي إلى دارنا، وحينما دخلنا مجلس أبي، وجدناه عامراً بالضيوف. سلم خالي على الموجودين، وطلب مني أن أجلس. وبعدها قال لأبي:
- إذا كنت، يا أبو طارق، لا تصدّق أن محمدا (كان اسمي محمدا في تلك الأيام) فهيم ولمّاح، دعنا نختبره الآن بكم سؤال.. بحضور هؤلاء الأوادم ضيوفك. والتفت إليّ وسألني: ما الفرق بين محمد سليمان التنوخي ومحمد سليمان الأحمد؟
فقلت له الأول هو أبو العلاء المعري، والثاني هو بدوي الجبل. وكلاهما شاعران كبيران، ولكن كل واحد منهما عاش في زمن.
وهنا حصل الأمر الذي لم يكن ذكائي يصل إلى مستوى أن أتوقع حصوله. كان بين ضيوف أبي رجل متعصّب، ما إن ذكرت أبا العلاء المعري حتى حرّك فمه بكلمات استغفار، وقال ما معناه: أجارنا الله من هذا الكافر الزنديق. وقال لخالي: سامحك الله، يا أبو صالح، ألم تعثر على رجل تضرب به مَثَلَك غير هذا المارق؟
ولكي يزداد الطين بلة، انبرى واحد آخر من ضيوف أبي، وقال للأول ما معناه إن أمتنا تتخلف يوماً بعد يوم، وتغوص في الوحول، لسببٍ وحيدٍ، هو أننا بدلاً من أن نحتضن عباقرتنا، ونشجعهم، ونفتخر بهم، ترانا نقلل من قيمتهم، ونلصق بهم تهماً فارغة. ولعلمك أن الأمم الأخرى لا تتمنى أن يكون عندها واحد مثل أبي العلاء تماماً، لأن هذا مستحيل، وإنما ترضى أن يكون لديها من يمتلك ربع عبقرية أبي العلاء.
أبي، بطبيعته المرحة، وحبه الابتعاد عن المماحكات والمساجلات العقيمة، فقس الموضوع بضحكة، وقال لخالي:
- بتؤمر أبو صالح، أنا ما عندي مانع أن "محمد" يرجع على المدرسة. وبالنسبة للعنزات ما هي مشكلة، بكرة بخلي ابني دريد يبطل من المدرسة ويرعاهم. وعلى فكرة، يا جماعة، دريد، على الرغم من أنه صغير في العمر، معلم في صناعة الجبن والقريشة والهكط.
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...