حصيلة مسار 25 يوليو 2021 في تونس
تقاس نجاعة حركات الانتقال السياسي بمدى قدرتها على التغيير، والتطوير، وتحسين أوضاع الناس في مختلف مناحي الحياة نحو الأفضل. فمع حصول تحوّل في بنية السلطة الحاكمة أو طبيعة نظامها السياسي، تتطلّع الجموع إلى حدوث تطوّراتٍ إيجابيةٍ تمسّ وضعها المعيشي والحقوقي والعمراني، وتتشوّف إلى أن تفي الوجوه الحاكمة الجديدة بوعودها، وتنتقل بالناس من الشكّ إلى اليقين، ومن الاضطراب العام إلى الاستقرار المستدام، ومن الهشاشة إلى الرفاه. وقد شهدت تونس في 25 يوليو/ تموز2021 حركة تحوّل نوعي في مستوى أعلى هرم السلطة، أقدم بمقتضاها رئيس الجمهورية قيس سعيّد على حلّ حكومة هشام المشيشي، وغلق البرلمان الشرعي المنتخب، وإلغاء دستور 2014، وحكم البلاد بالمراسيم، واعداً المواطنين بإرساء مسار إصلاحي، ومكافحة الفساد، وتحقيق التنمية الشاملة، وحماية الحرّيات العامّة والخاصّة. وبعد مرور عامين على ظهور ما يعرف بمسار 25 جويلية (يوليو/ تموز)، من المفيد الوقوف عند حصيلة هذا المسار سياسياً، وحقوقياً، واقتصادياً، ودبلوماسياً.
سياسياً، أحيت حركة 25 يوليو 2021 الدور الفاعل لمؤسّسة رئاسة الجمهورية في رسم معالم السياسات العامّة للدولة. فعلى خلاف دستور 2014 الذي منح رئيس الدولة صلاحيات محدودة في إطار نظام برلماني معدّل، وجعله تحت رقابة المجلس النيابي، والمنظّمات المدنية، والمحكمة الدستورية، جاء الأمر عدد 117 ودستور 2022 اللذين أشرف على صياغتهما قيس سعيّد ليمنحا رئيس الجمهورية صلاحياتٍ مطلقة على نحوٍ جعله قطب الرحى في إدارة منظومة الحكم. فهو مَن يُعيّن رئيس الحكومة، ويُعفي أعضاءها، وهي مسؤولة أمامه لا أمام المجلس النيابي، وهو مَن في مقدوره حلّ البرلمان، وله اليد الطولى في تشكيل المجلس الأعلى للقضاء، والمحكمة الدستورية، وتعديل هيئة الانتخابات، وتغيير القانون الانتخابي. وأدّى ذلك عملياً إلى مركزة القرار بيد رئيس الجمهورية الذي أصبح قيّماً على التشريع، رقيباً على القضاء، ومشرفاً على التنفيذ، على نحو أخلّ، بحسب ملاحظين (مراقبين)، بمبدأ التوازن بين السلطات والرقابة المتبادلة بينها، فكفّت عن كونها تتمتّع بهامش كبير من الاستقلالية في دستور 2014، لتغدو مجرّد وظائف في دستور 2022، خاضعة بشكل مباشر أو غير مباشر لنفوذ رئيس الجمهورية. وبالتوازي مع ذلك، جرى تهميش الأجسام المدنية الوسيطة، مثل الأحزاب، والنقابات، والجمعيات الأهلية التى أصبحت على هامش صناعة القرار. ذلك أنّ منظومة 25 يوليو لا تؤمن بوجود هياكل تمثيلية فاعلة، وازنة، تنافس رئيس الجمهورية على صناعة القرار وقيادة البلاد. بل تؤمن بسردية القائد الملهم، والزعيم المخلّص الذي يمتلك الحقيقة، ويستجمع كلّ السلطات بيده، وتربطه علاقة مباشرة بمريديه.
أفضت عدة ممارسات إلى إشاعة ثقافة الخوف في الشارع التونسي، واستعادة ملامح دولة شمولية، مغلقة، وإلى خروج تونس من نادي الدول الديمقراطية
حقوقياً، أكّد قيس سعيّد، إبّان إعلان مسار 25 يوليو، أنّ التدابير الاستثنائية التي واكبت ذلك الحدث ستكون ظرفية، وتزول بزوال أسبابها، وتعهّد بأن لا مساس بالحريات العامّة والخاصّة. لكنّ المشهود بعد عامين من حكم الاستثناء أنّ تونس ما زالت تُدار بقانون الطوارئ وبمراسيم رئاسية نافذة رغم استكمال المسار المؤسسّي لحركة 25 يوليو بتنصيب حكومة جديدة، ووضع دستور آخر، وظهور برلمان جديد. ويبدو المُراد، بحسب مراقبين، تأبيد حكم الاستثناء تكريسا لهيمنة السلطة التنفيذية على الشأن العام. كذلك، أخبرت تقارير متواترة صادرة عن جهاتٍ حقوقيةٍ موثوقةٍ في الداخل والخارج بتراجع هامش الحريات العامّة والخاصّة في البلاد، وذلك في ظلّ إحالة مدنيين على محاكم عسكرية، وفرض منع السفر على ناشطين سياسيين من دون موجب قانوني، وفتح ملفّات قضائية ضدّ معارضين للنظام الحاكم، والتضييق على الحقّ في التظاهر، وحرّية التعبير. وتعزّز هذا التوجّه بحلّ المجلس الأعلى للقضاء، وتحويله من سلطة إلى وظيفة، ووضعه تحت جبّة السلطة التنفيذية بموجب المرسومين 36/35 على نحو ساهم في الحدّ من استقلالية القاضي، ومسّ من شروط المحاكمة العادلة في نظر مراقبين. يضاف إلى ذلك صدور المرسوم الرئاسي عدد 54 المتعلق بمكافحة الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصالات الذي تضمّن عقوبات ردعية ثقيلة، تنتهك الحرّيات الرقمية والتعبيرية للتونسيين، بدعوى مكافحة الإشاعة والأخبار الزائفة وخطاب الكراهية، ومنع الإساءة للغير عموماً، والموظّف العمومي خصوصاً. وقد ذهب ضحيّة ذلك المرسوم كثيرون، فأُوقِف صحافيون، ومدوّنون، وسياسيون وأُحيل آخرون على التحقيق القضائي، على خلفية نقدهم سياسات المنظومة الحاكمة. ومعلوم أنّ ذلك يُعدّ نقضاً لحقّ الاختلاف، وتهديداً لمكسب حرّية التعبير الذي كرّسته الثورة. وأفضت هذه الممارسات عملياً إلى إشاعة ثقافة الخوف في الشارع التونسي، واستعادة ملامح دولة شمولية، مغلقة، وكذا إلى خروج تونس من نادي الدول الديمقراطية.
على الصعيد الاقتصادي/ المعيشي، ورثت منظومة 25 يوليو اقتصاداً متهالكاً على امتداد عقود، انبنى على الريْع والجباية، والاقتراض من البنوك المحلّية والدولية. ولم ينجح المسار الجديد في إبداع مناويل تنموية جديدة، وإرساء معالم اقتصاد تكاملي، إنتاجي، ناجع. بل ظلّ رهين لبْرلة السوق، وجرى توفير مداخيل الموازنة العامّة أساساً من أموال دافعي الضرائب، وقروض الصناديق المانحة، وعائدات التونسيين في الخارج. ومع أهمّية مبادرة قيس سعيّد المتعلّقة بالصلح الجزائي لاستعادة الأموال المنهوبة، ما زالت عوائد هذه المبادرة محدودة ودون المستوى المأمول. كذلك، ما زالت تجربة إحداث شركات أهلية متعثّرة لعدم وضوح هويتها الاقتصادية، وباعتبار ما يواجهها من عراقيل إدارية وقانونية ولوجيستية.
اعتبر 56% من التونسيين "البلاد تسير في الاتجاه الخطأ" بحسب "المؤشّر العربي"
ومن الناحية المعيشية، وعدت رئيسة الحكومة نجلاء بودن عند تولّيها مهامّها بالعمل على "إعادة الأمل للتونسيين"، وتحسين ظروف عيشهم ومقدرتهم الشرائية. لكن بعد زهاء عامين من مباشرتها العمل الحكومي في إطار منظومة 25 يوليو، ارتفعت الأسعار بشكل جنوني، وأصبح المواطن يواجه نقصاً يوميّاً في الماء، والغذاء، والدواء، وغدا يجد صعوبةً في الحصول على موادّ أساسية، مثل الخبز، والدقيق، والأرز، والسكر، والزيت النباتي. وبدا واضحاً أنّ الحكومة غير قادرة على الإيفاء بالتزاماتها المالية إزاء المزوّدين الدوليين، وهو ما أثّر سلباً بنسبة وفرة موادّ استهلاكية ضرورية في السوق التونسية. كذلك أدّى تخفيض الترتيب السيادي لتونس بشكلٍ غير مسبوق، بحسب وكالات التصنيف الائتماني، إلى التقليل من فرص خروج البلاد إلى السوق الماليّة الدولية، وحصولها على قروض ميسّرة من الجهات المانحة. وفي سياق متصل، ارتفعت البطالة لتبلغ نسبة غير مسبوقة (18.4%)، واتسعت دوائر الفقر لتشمل 963 ألف عائلة تضم نحو أربعة ملايين تونسي. وأفاد 12% فقط من التونسيين بحسب المؤشّر العربي (2022) بأنّ الدّخل الأسري يغطّي النفقات المطلوبة، ويمكن التوفير منه. وقال 36% إنّ الدخل العائلي يضمن لهم الكفاف فحسب، ولا يوفّرون منه شيئاً. فيما أخبر 51% أنّ ''دخْل الأسرة لا يغطّي نفقاتنا اليوميّة، ونواجه صعوبة في تأمين احتياجاتنا"، وهو ما يعني أنّ هؤلاء يعيشون حالة فقر مدقع.
ودفع واقع العطالة الاقتصادية، وغلاء الأسعار، وانسداد الأفق، كثيرين إلى الشعور بالإحباط، حتّى اعتبر 56% من التونسيين "البلاد تسير في الاتجاه الخطأ" بحسب "المؤشّر العربي". وفي ظلّ حالة اللايقين تلك، خاطر آلاف بحياتهم، وركبوا قوارب الهجرة غير النظامية نحو أوروبا. ولسان حالهم يقول إنّ مسار 25 يوليو لم يفِ بوعوده، ولم يكن في مستوى الآمال المعقودة عليه، ولم يخرج بهم من الخصاصة إلى الرفاه، ومن الهشاشة إلى الاستقرار، ولم يحقّق أحلامهم بغد أفضل، لذلك تركوه وتركوا البلد.
التعثّر في تقديم حلول استعجالية ناجعة لأزمات البلاد المتعدّة مؤثّر في شعبية الرئيس لا محالة
خارجياً، تراجع بعد حركة 25 يوليو 2021 الامتداد الدبلوماسي لتونس، وفقدت إشعاعها باعتبارها قلعة للديمقراطية في العالم العربي، وآلت علاقاتها الدبلوماسية بدول داعمة للانتقال الديمقراطي إلى الفتور (الولايات المتحدة، ألمانيا، تركيا، قطر...)، وجدّت دبلوماسية سعيّد في البحث عن حلفاء جُدد (فرنسا، إيطاليا، مصر، سورية...)، لكنّ هذه الدول تعاني من مشكلات داخلية جمّة، ولن تقدّم، بحسب مراقبين، إلى الطرف التونسي الإضافة النوعية، الشاملة والمأمولة. كذلك ألقى الارتباك الرسمي في التعاطي مع معضلة هجرة الأفارقة بطريقة غير نظامية نحو تونس، ومنها إلى أوروبا، بظلاله على الدبلوماسية التونسية. ففي ظل تنامي حملات الكراهية والدعاية الموجّهة ضدّ الوافدين الأفارقة، وحصول مناوشاتٍ بينهم وبيْن بعض المواطنين، أصبحت بعض الجهات الحقوقية تميل إلى رمي تونس بشبهة "العنصرية"، وهو ما نفته الجهات الرسمية، مؤكّدةً أنّ ثقافة الاختلاف في البلاد أصيلة. وفي سياق متّصل، يذهب مراقبون إلى أنّ مذكّرة التعاون التي أبرمتها تونس مع ممثلين للاتحاد الأوروبي للتصدّي للهجرة غير النظامية لن توفّر مكاسب اقتصادية كبيرة لتونس، ولن تحسّن شروط شراكتها البيْنية مع الاتحاد الأوروبي. بل تخدم شعبية اليمين المتطرّف في أوروبا، وتزيد من تدفّق المهاجرين غير النظاميين نحو الوجهة التونسية. وتجعل عملياً من تونس حارساً نشيطاً لحدود أوروبا الجنوبية مقابل مساعداتٍ ماليةٍ ولوجستية محدودة.
ختاماً، انبنت دوغما 25 يوليو على التمكين لرئيس الجمهورية، وجعله يُمسك بمفاصل الدولة، ويتمتّع بصلاحياتٍ واسعة، ويحتكر سلطة التغيير. لكن، تبيّن بعد عامين من حكم رئاسي مطلق، أنّ شخصاً واحداً ليس في مقدوره حلّ كلّ مشكلات تونس المعقّدة. ومعلوم أنّ التعثّر في تقديم حلول استعجالية ناجعة لأزمات البلاد المتعدّة مؤثّر في شعبية الرئيس لا محالة.