حصيلة حكومة الصمت في تونس
مع نهاية شهر مارس/ آذار2022، تكون الحكومة التونسية، برئاسة نجلاء بودن، وقد عيّنها الرئيس قيس سعيّد (29 سبتمبر/ أيلول2021) في زمن حكم الاستثناء بموجب الأمر عدد 117 أكملت ستّة أشهر من تولّيها مهامّ إدارة السلطة التنفيذية في البلاد. واللافت خلال الفترة المذكورة أنّ رئيسة الوزراء المعيّنة لم تظهر إلّا قليلا في المشهد الإعلامي، ولم تُخاطب التونسيين إلّا نادراً، ولم تُشرف على إدارة مجلس الوزراء سوى مرّات معدودة، فيما ترأّس سعيّد جُلّ جلساته. وظهرت بودن غالباً في صورة المسلِّم بما يقوله رئيس الجمهورية، ولم يحدُث أن جاهرت هي، أو أحد أعضاء الحكومة الحالية، برأي يخالف حاكم قرطاج، أو بمقترح يعارض سياساته في إدارة الشأن العام. لكنّ ذلك لا يمنع من الإشارة إلى أنّ حكومة الصمت، كما يسمّيها مراقبون، وعدت، في مستهلّ ولايتها، التونسيين بتحقيق جملة من المطالب، من بينها مكافحة الفساد وحوكمة الإدارة، وتنشيط الدورة الاقتصادية، وتحسين القدرة الشرائية. والواقع أنّ جلّ تلك الوعود ظلّت معلّقة، ولم تجد بعد طريقها إلى التنفيذ. وجاء في تقرير صادر عن منظمة "أنا يقظ" الرقابية، يُعنى بقياس مدى التزام رئيسة الحكومة بتنفيذ وعودها المعلنة للشعب التونسي، أنّ حصيلة الفريق الحكومي زمن الاستثناء سلبية، ذلك أنّ بودن قدّمت، بحسب المنظمة المذكورة، 17 وعداً إصلاحياً، وردت مبثوثةً في تصريحاتها المعدودة، ولم يتحقّق أيّ وعدٍ منها على أرض الواقع.
ظهرت نجلاء بودن غالباً في صورة المسلِّم بما يقوله رئيس الجمهورية، ولم يحدُث أن جاهرت هي، أو أحد أعضاء الحكومة الحالية، برأي يخالف حاكم قرطاج
في مستوى الوعود المتعلّقة بتعميم الحوكمة، وهو مشغلٌ فشلت في تحقيقه جلّ الحكومات المتعاقبة في تونس قبل الثورة وبعدها، وعدت نجلاء بودن بتقويم أداء الإدارة العمومية وإعادة هيكلتها، وتطوير طرق عملها، وتنفيذ مشاريع إصلاحيةٍ تنمويةٍ، شاملة ومستدامة. وظلّت هذه الوعود المهمّة، في تقدير منظمة "أنا يقظ" في طور الإنجاز، ولم يكتمل مسار تحقيقها بعد. والثابت أنّ رئيسة الحكومة أوصت المديرين، ورؤساء المصالح الإدارية، بتقديم برامج عملهم المستقبلية، ومقترحاتهم لإصلاح المؤسّسات العمومية. لكنّ هذا التوجّه لم يُواكبه ضبط لآليات المتابعة والتقويم. كما لم يجر إشراك مكوّنات المجتمع المدني (أحزاب، جمعيات، نقابات) في التخطيط للقيام بمشاريع إصلاحية حكومية أو رئاسية. خذ مثلاً على ذلك مشروع الاستشارة الإلكترونية الذي جرى وضعه وفرْضه بطريقة فوقية/ أحادية، ولم تُستدعَ الهياكل المدنية الوسيطة للمشاركة في بلورته، والحال أنّه يتضمّن مشاغل تتعلّق بالشأنين، اليومي والمستقبلي، للتونسيين.
على صعيد متّصل، لم يشهد مشروع مكافحة الفساد الذي أعلنته الحكومات المتعاقبة بعد الثورة تطوّراً ملحوظاً على عهد حكومة بودن، فلم يجر تحويل "مبادئ المراقبة، والمساءلة، والمحاسبة" من وعْد إلى واقع، ولم تصدر "الأوامر والنصوص التطبيقية لقوانين مكافحة الفساد". كما لم تنجز بلورة استراتيجية وطنية لمكافحة الفساد. بل على خلاف ذلك، استمرّ إغلاق مقرّ الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد التي قامت بدور رقابي واستقصائي بشأن ملفّات الفساد، وتولّت حماية المبلغين عن الفساد، وتأمين إفاداتهم ومعطياتهم الشخصية، وساهمت في تحريك عجلة إنفاذ القانون بشأن بعض المفسدين. واستمرار إغلاق الهيئة المذكورة يتعارض مع شعار مكافحة الفساد الذي ترفعه الحكومة، ويؤكّد رغبة السلطة التنفيذية في الهيمنة على منظّمات المجتمع المدني على كيْفٍ ما. وفي خصوص وعد نجلاء بودن بعصرنة الإدارة، واستعادة ثقة المواطن بها، واعتماد معيار الكفاءة، وتعيين الأقدر في مفاصل الدولة الحيوية، لاحظت منظمة "أنا يقظ" أنّ "جلّ التعيينات والإقالات في فترة حكومة نجلاء بودن مرتبطة بمعيار الولاء لرئيس الجمهورية"، وهو ما يجعل مقولة "تعيين الشخص المناسب في المكان المناسب" محلّ شك. أمّا الأداء الإداري، فلم يتطوّر بعدُ على النحو المأمول، فما زالت الإدارة التونسية في الغالب تقليدية، بيروقراطية، تحتاج إلى التجديد وإعادة الهيكلة والرقمنة الشاملة حتّى تحقّق النجاعة المطلوبة، وتوفّر كلّ خدمات القُرب للمواطنين.
لم يشهد مشروع مكافحة الفساد الذي أعلنته الحكومات المتعاقبة بعد الثورة تطوّراً ملحوظاً في عهد حكومة بودن
من الناحية الاقتصادية، أدركت حكومة بودن البلاد في ظلّ وضع اقتصادي صعب، مردّه تداعيات جائحة كورونا، وتراجع مردود القطاع السياحي خلال السنوات الخمس المنقضية، وانحسار حركة الاستثمارين، الداخلي والخارجي. وقدّمت ثلاثة وعود مهمّة، اثنان منها في طور الإنجاز، الأوّل متعلّق باسترجاع ثقة الأطراف الأجنبية في الدولة التونسية، والثاني عنوانه فتح المجال للمبادرة في مختلف الجهات ولجميع الفئات. وأعلنت رئيسة الحكومة في هذا المضمار إحداث منصّةٍ إلكترونيةٍ لتسجيل المؤسّسات بغاية رقمنة الخدمات الإدارية الموجّهة إلى المستثمرين، وتيسير العمل الاقتصادي وتشبيكه، وتحسين مناخ الأعمال في البلاد، وحاولت مدّ جسور التعاون الاقتصادي مع دول عربية (الجزائر، السعودية)، ومع بعض الجهات المانحة (الاتحاد الأوروبي، البنك الدولي). لكنّها لم تنجح في تحقيق الوعد الثالث المتعلّق بتنشيط الدورة الاقتصادية، فقد أفاد تقرير صادر عن الهيئة التونسية للاستثمار بأنّ "المشاريع التي تتجاوز كلفتها 15 مليون دينار تراجع الاستثمار فيها بنسبة 20% عمّا كان عليه سنة 2020، وانخفض عدد مواطن الشغل بـ15%، مقارنة بما كان عليه في السنة نفسها. كما تراجعت الاستثمارات في مجال الطاقات المتجدّدة بنسبة 83%".
ويمكن تفسير العطالة الاقتصادية المشهودة في تونس، وتردّد المستثمرين في بعث مشاريع جديدة، ومغادرة آخرين البلد، بعدّة أسباب أهمّها عدم الاستقرار السياسي، وشيوع الشعور باللايقين لدى رجال الأعمال، وخوفهم من المستقبل بسبب كثرة الاحتجاجات المطلبية، وكذا كثرة المضايقات المفروضة عليهم زمن التدابير الاستثنائية من قبيل منع بعضهم من السفر، ومداهمة مصانع آخرين بشكل عشوائي، بدعوى مقاومة الفساد ومكافحة الاحتكار. تضاف إلى ذلك التعقيدات الإدارية البيروقراطية المنفّرة، والحسوم الضريبية الثقيلة، وتقارير وكالات التصنيف الائتماني الدولية، المتواترة التي خفّضت الترتيب السيادي لتونس، وأخبرت بآفاق سلبية لأدائها الاقتصادي. وجديد ما صدر في هذا الشأن تقرير''فيتش رايتنغ" (18/03/2022) الذي خفّض ترقيم تونس السيادي إلى CCC مع آفاق سلبية، ما يعنى "ازدياد خطر محدودية السيولة المالية الخارجية، وأنّ السندات تنطوي على مخاطر ائتمانية كبيرة والتخلف عن السداد أصبح احتمالاً حقيقياً". وزادت هذه المعطيات عمليّاً من عُزلة تونس سياسياً واقتصادياً، وقلّلت من فرص خروجها إلى السوق الماليّة الدولية، وحصولها على قروضٍ ميسّرةٍ من الجهات المانحة.
ارتفعت البطالة لتبلغ نسبة غير مسبوقة (18.4%)، واتسعت دوائر الفقر لتشمل 963 ألف عائلة تضم نحو أربعة ملايين
وعلى الصعيد الاجتماعي، وعدت رئيسة الحكومة خلال تنصيبها بالعمل على "إعادة الأمل للتونسيين"، وتحسين ظروف عيشهم ومقدرتهم الشرائية. لكن، بعد نصف عام من الحكم، تبدو الحصيلة في هذا المجال سلبية عموما، فلئن استتبّ الأمن نسبيّا بفعل عسكرة الشارع، وتغليب التعامل الأمني مع الاحتجاجات الشعبية، فإنّ الوضع المعيشي لم يتحسّن، بل ارتفعت البطالة لتبلغ نسبة غير مسبوقة (18.4%)، واتسعت دوائر الفقر لتشمل 963 ألف عائلة تضم نحو أربعة ملايين تونسي، بحسب تصريح وزير الشؤون الاجتماعية مالك الزاهي. كما أنّ الخدمات التعليمية والصحية لم تشهد تطوّراً معتبراً، وأصبح المواطنون في زمن حكومة الأمر 117 يعانون من شحّ عدّة أدوية ضرورية لمعالجة أمراض خطيرة ومزمنة. وفي هذا الصدد، كشف رئيس جمعية الصيادلة، ناظم الشاكري، أنّ "721 نوعاً من الدّواء مفقود أو يصعب الحصول عليه من الصيدليات التونسية حالياً". كما تشهد السوق الاستهلاكية نقصاً حادّاً في عدّة سلع أساسية (الزيت النباتي، الدقيق، السكر، الأرز، القمح، الحديد، الغاز...)، وأصبح الناس يقفون طوابير للحصول على رغيف خبز أو لاقتناء بعض المواد الغذائية، ويفسّر ذلك رسميّاً بشيوع الاحتكار، ويرجع الأمر أيضاً، بحسب مراقبين، إلى تأخّر الطرف التونسي في سداد المستحقات المالية لمزوّدين دوليين، وكذا لاندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا، علماً أنّ تونس تستورد من البلدين المتنازعين 50% من حاجياتها للقمح. وتدهورت القدرة الشرائية بسبب الارتفاع الجنوني للأسعار، فبحسب المعهد الوطني للإحصاء، ارتفعت أسعار الدواجن في ديسمبر/ كانون الأول 2021 بنسبة 3.32% وزيت الزيتون بـ8.21% وأسعار البيض بـ15% والغلال بـ16.7% والخضر بـ10% والأسماك بنسبة 0.9% مقارنة بأسعار ديسمبر/ كانون الأول 2020، وارتفع ثمن الثوم ب100%، والخبز بنسبة 25% خلال الشهرين الماضيين في المخابز غير المدعّمة. وأقرّت حكومة بودن زيادة 3% شهرياً في سعر الوقود بداية من شهر مارس/ آذار الحالي، وفرضت على المواطنين دفع مائة مليم على كلّ عملية شراء من المجمّعات التجارية الكبرى. وخلّفت تلك التدابير الحكومية استياءً واسعاً لدى التونسيين، وخيّبت آمالهم في تحسين أوضاعهم بعد 25 يوليو/ تموز 2021. ويعتري كثيرين شعورٌ بالسخط والإحباط، وينعت جلّهم الحكومة الحالية بـ"حكومة الاجتباء، والغلاء، وقلّة الدواء"، ويُحتمل، حسب ملاحظين، أن يدفع ضيق العيش الغاضبين إلى انتفاضة جوع قريباً.
ختاماً، صحيحٌ أنّ نجلاء بودن سجّلت سابقة في تاريخ تونس السياسي الحديث، باعتبارها أوّل امرأة تولّت مقاليد رئاسة الحكومة، لكنّ الواقع أنّ حكومتها لا تحظى بشرعية دستورية، ولا برلمانية، ولا شعبية، فهي وليدة الأمر الرئاسي 117 ورهينته. وقد ظلّت ظلّاً لرئيس الجمهورية وتَبَعاً له. ولم تنجح في تحقيق وعودها الوردية المعلنة، بل زادت الأوضاع سوءاً في نظر مراقبين. ومن غير البعيد، في ظلّ فشلها في إدارة الاستشارة الإلكترونية، وعجزها عن إخراج تونس من ضائقتها الاقتصادية وأزماتها المتعدّدة، أن تكون المشجب الذي يعلّق عليه الرئيس وأنصاره كلّ الفشل المشهود في إدارة البلد زمن حكْم الاستثناء.