حسن حنفي .. هموم الفكر وتناقضاته

28 أكتوبر 2021
+ الخط -

رحل قبل أيام الباحث والمفكر العربي، حسن حنفي (1935 - 2021)، بعد أزيد من نصف قرن من البحث والكتابة في قضايا التراث والفلسفة، إضافة إلى انخراطه في مجابهة قضايا الشأن العام الوطني والقومي، وبحثه في سبل النهوض العربي. ومنذ عودته من فرنسا بعد إنهاء أطروحاته الجامعية، في ستينيات القرن الماضي، لم يتوقف الرجل عن الكتابة والمشاركة في الحياة العامة بالرأي والموقف.

ارتبط اسم حسن حنفي بأسماء المفكرين العرب الذين عَمِلُوا على تركيب مشروع فكري في موضوع الموقف من التراث، يتعلق الأمر بكل من محمد عابد الجابري (1935-2010) ومحمد أركون (1928 - 2010)، وقد انخرطوا جميعاً في ربط سؤال النهضة العربية بالتفكير في كيفية إعادة بناء الموروث الثقافي العربي والإسلامي، والتفكير في كيفيات التصالح مع مكاسب ومتطلَّبات الأزمنة الحديثة، أنتج الأول رباعية "نقد العقل العربي"، وساهم الثاني بأبحاثه في "نقد العقل الإسلامي". أما حنفي فقد أدرج مختلف أعماله ضمن الخطاطة العامة التي رسم ملامحها في كتابه "التراث والتجديد" (1980). وبوفاته، أُغْلِق قوس المشاريع الكبرى في التراث، وفي كيفيات استئناف مشروع النهضة العربية، أُغْلِقَ بالطريقة التي وَجَّه كلّ منهم أعماله بها .. وهي مشاريعُ اكتملت ملامحها الكبرى وحدودها في الثلث الأخير من القرن الماضي. ومهما تنوّعت مشاريع من ذُكروا، إلّا أنها ظلّت سجينة الثنائية الكبرى التي وَسَمت كثيراً من قراءات التراث في فكرنا المعاصر، ثنائية التراث والحداثة، وهي تجد كثيراً من مبرّراتها في التاريخ المؤطّر لفكرنا المعاصر.

تعرّفت إلى حسن حنفي في المؤتمر الفلسفي الأول، في الجامعة الأردنية في عمّان سنة 1983، وأثْمَر ميلاد الجمعية الفلسفية العربية، ثم توثقت أواصر المودة بيننا. وكان آخر لقاء لي معه، إذا كنت أذكر جيداً في الدوحة، سنة 2018، وقد فوجئت به أمامي، على كرسي متحرِّك، فتحدّثنا بحرارةٍ عن كل ما فعله ويفعله الزمان بنا... وبدا لي كما عرفته متفائلاً ومقبلاً على الحياة. بدا لي أن أعماله في دائرة التراث، في الفقه وعلم الأصول، في الكلام والتصوّف .. لم تُجَرِّده من حِسِّه الفلسفي الذي يُسعِفه أحياناً، بالقفز على متاعب العمر التي لا مفرّ منها. قبل اللقاء الأول به في مؤتمر عمّان، وكان بصحبة وفدٍ مُتميِّز من الباحثين المصريين، أنور عبد المالك وفؤاد زكريا ومحمود أمين العالم ومراد وَهْبَة .. أقول قبل لقائنا الأول، كنتُ أتابع أعماله الأولى، كما كنّا نلتقي في الندوات الكبرى التي بدأت تُعْقَد في كلية الآداب بالرباط نهاية سبعينيات القرن الماضي وطوال ثمانينياته. كما كنا نلتقي في القاهرة والإسكندرية وبيروت وبغداد ودمشق.

خصوماته العديدة مع تياراتٍ سلفية رأت في اليسار الإسلامي قناعاً يخفي مواقف أخرى

اشتهر حسن حنفي بمشروعه في التراث والتجديد، ومساعيه الهادفة إلى تأسيس يسار إسلامي، إضافة إلى نزوعاته السلفية والقومية المُعْلَنَة والواضحة. وساهمت هذه الخيارات مجتمعة، في رسم الملامح الكبرى لكثيرٍ من أعماله، ولطريقته في التفكير والكتابة، إلا أن بعض أبحاثه الأخرى، وترجماته لبعض نصوص الفلسفة الغربية المعاصرة، وكذا المقدّمات المطوّلة التي كان يُمَهِّد بها لهذه الترجمات، تُبْرِز وجهاً آخر من أوجُه تكوينه وعطائه، كما تُبْرِز تناقضاتٍ كثيرة تخترق مشاريعه في البحث، إذ يستطيع المُتَابِع لأعماله الوقوف على جوانب من عمق تكوينه الفلسفي، وجوانب أخرى من مساعيه الهادفة إلى بناء موقف وموقع داخل دوائر الصراع السياسي الوطني والقومي.

كان حسن حنفي يحرص، في العديد من أعماله، على بِنَاء موقفٍ يَنحازُ فيه لبعض الخيارات السلفية التي تُرْبِكُ في تصوُّرنا مشروعه في التراث والتجديد، على الرغم من اعتقاده أن هذا الخيار يُعتبر الأقرب إلى أفق التقدم العربي المأمول. ترجمته كتاب سبينوزا "رسالة في اللاهوت والسياسة" (1971)، وترجمته كتاب ليسينغ "تربية الجنس البشري" (1981) ومجموع أبحاثه في الفلسفة الغربية الحديثة والمعاصرة، المُتضمَّنة في الجزء الثاني من كتابه "دراسات فلسفية" (2014)، وما كتبه عن فِخته وبِرْغسون وسارتر، ومقدمته في علم الاستغراب (900 صفحة) الصادرة في طبعتها الأولى سنة 1991، تعكس كلها، بكثير من الجلاء، صور انخراطه في محاورة بعض أسئلة الفلسفة وقضاياها.

ظَلّ، طوال مساره في البحث والكتابة، سجين ثنائية التراث والتجديد، العنوان الأكبر لمشروعه ولمجمل آثاره

ظَلّ المرحوم، طوال مساره في البحث والكتابة، سجين ثنائية التراث والتجديد، العنوان الأكبر لمشروعه ولمجمل آثاره. صدر "التراث والتجديد" وتناسلت مجلداته من دون توقف. حيث ظل كاتبه يستعيد ويُعيد العناية بمرتكزات مباحثه، ولأنه كان يحرص على ربط مباحثه بأسئلة الواقع المصري والعربي، في تحوّلاته الجارية في النصف الثاني من القرن الماضي، فقد اهتم بالمشروع القومي، إلا أن هذا الاهتمام، وإنْ دفعه إلى تنويع اهتماماته، فإنه لم يُنْتِج ما يُطَوِّر مقدمات المشروع السّلفي ومشروع الإسلام السياسي واليسار الإسلامي، فَظَلّ يمتلك مواقع مرتبكةً على كل الجبهات. نتبيّن بعض أوجُه الارتباك والتناقض في الخلاصات التي بلور وهو يحاول إبراز قصور فلسفة الأنوار، ففي المقدّمة التي كتب لنص ليسينغ "تربية الجنس البشري" يسلم بأهمية المفاهيم الأنوارية، ويثبت، في الوقت نفسه، تمزُّقها الحاصل ضمن صيرورة تاريخ الفلسفة الغربية. إنه لا يقرأ تحوّلات مفاهيم الأنوار بصورةٍ تاريخية، قدر ما يتناولها من خلال رؤيةٍ مسبقة، تفضي به إلى النتائج التي يتّجه منذ البداية نحوها، إثبات قصور الأنوار، لمصلحة أنوار الإسلام.

خاض حسن حنفي معارك عديدة طوال سنوات إنتاجه، أبرزها معاركه على صفحات مجلة "الفكر المعاصر" المصرية مع المرحوم فؤاد زكريا، إذ كان الأخير لا يتردّد في إبراز تناقضات فكره وكتاباته، وكان رَدّ حسن حنفي يستوعب مبدأ حِرصه على الانتماء إلى تراثٍ يصعب التفكير في التقدم العربي من دون الاستعانة به .. إضافة إلى خصوماته العديدة مع تياراتٍ سلفية رأت في اليسار الإسلامي قناعاً يخفي مواقف أخرى. ووسط كل هذه المعارك، لا بد من الإشارة إلى النجاح الذي لقيه حواره مع محمد عابد الجابري، على صفحات مجلة "اليوم السابع" في ثمانينيات القرن الماضي، فقد أثمر الحوار كتاب "حوار المشرق والمغرب" (1990)، وهو نصّ قويّ، حَدَّد مواقف كلّ منهما من بعض أسئلة الفكر في علاقتها بالراهن العربي في ثمانينيات القرن الماضي.

C0DB4251-3777-48D1-B7F6-C33C00C7DAEB
كمال عبد اللطيف

محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه، عضو في لجان جوائز ثقافية في مراكز بحث وجامعات عربية. يساهم في الكتابة والتدريس الجامعي منذ السبعينيات، من مؤلفاته "درس العروي، في الدفاع عن الحداثة والتاريخ" و"الثورات العربية، تحديات جديدة ومعارك مرتقبة".