حسابات واشنطن في أوكرانيا ومحاولات احتواء روسيا
تماشيًا مع التوقعات الغربية، والأميركية تحديدًا، أطلقت روسيا، صباح يوم 24 شباط/ فبراير 2022، عملية عسكرية شاملة في أوكرانيا، حدّدت هدفها بنزع سلاح هذه الأخيرة، وإطاحة حكومة الرئيس الأوكراني، فلاديمير زيلينسكي، الساعي إلى ضمّ بلاده إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وهو ما ترفضه روسيا. جاء القرار الروسي بعد يومين فقط من إعلان موسكو اعترافها باستقلال إقليمَي لوغانسك ودونيتسك الانفصاليَين في إقليم دونباس شرقي أوكرانيا. وردّت الولايات المتحدة الأميركية وحلفاؤها في الاتحاد الأوروبي و"الناتو" وآخرون، بفرض جملة من العقوبات الاقتصادية والسياسية على موسكو، شملت الرئيس فلاديمير بوتين، والدائرة الضيقة المحيطة به. وزادت الدول الغربية من حجم مساعداتها الاقتصادية والعسكرية لأوكرانيا بهدف رفع تكلفة الغزو على روسيا. وقد دفعت هذه الإجراءات الرئيس بوتين إلى التهديد المبطّن باللجوء إلى السلاح النووي، ما أجّج المخاوف من إمكانية اتساع المواجهة وتصاعدها جرّاء خطأ في حسابات أحد الطرفين.
سلاح العقوبات
في سياق العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة وحلفاؤها على روسيا، كان لافتًا التزام الرئيس الأميركي، جو بايدن، بتنفيذ التهديدات التي أطلقها خلال قمّة افتراضية جمعته بالرئيس بوتين، في كانون الأول/ ديسمبر 2021، في محاولته ردع روسيا عن القيام بعمل عسكري ضد أوكرانيا. وكان بايدن هدّد حينها بفرض عقوباتٍ اقتصاديةٍ "مدمّرة" ضد روسيا، وتقديم دعم عسكري لأوكرانيا، بما في ذلك أسلحة هجومية متقدّمة، والسعي إلى عزل موسكو دوليًا، إذا هي أقدمت على غزو أوكرانيا. وكان واضحًا الجهد الذي بذلته واشنطن في التنسيق مع حلفائها في الاتحاد الأوروبي، وحلف الناتو، واليابان وأستراليا، وكوريا الجنوبية ونيوزيلندا، لمعاقبة روسيا. وقد تمكّنت واشنطن من تجاوز مخاوف بعض شركائها الذين قد تتأثر مصالحهم بشدّة نتيجة فرض عقوبات معيّنة على روسيا، خصوصا ما يتعلق منها بمنع بنوك ومصارف روسية من الوصول إلى نظام SWIFT للتعاملات المصرفية والتحويلات المالية الدولية. كما استُثني قطاع الطاقة الروسي من العقوبات؛ مراعاةً لمصالح الحلفاء الأوروبيين الذين يعتمد كثير منهم على النفط والغاز المستوردَين من روسيا، في ظل عدم توافر بدائل سريعة ومجدية اقتصاديًا، وأيضًا، وربما الأهم بالنسبة إلى إدارة بايدن، منعًا لحصول ارتفاع كبير في أسعار الطاقة، المرتفعة أصلًا، وهو ما سيضرّ بمصالح الولايات المتحدة نفسها وبالمستهلك الأميركي الذي بات يدفع نحو 40% تكلفة إضافية للوقود مقارنةً بالعام الماضي، ما يؤثر في حظوظ الديمقراطيين في سنة انتخابية حاسمة. وتعدّ روسيا ثاني مصدّر للنفط في العالم بعد المملكة العربية السعودية، وأكبر مصدّر للغاز.
اتبعت واشنطن وحلفاؤها أسلوبًا متدرّجا في فرض العقوبات، على أمل أن يمنع ذلك روسيا من اتخاذ إجراءات تصعيدية أكثر في حربها ضد أوكرانيا
وقد اتبعت واشنطن وحلفاؤها أسلوبًا متدرّجا في فرض العقوبات، على أمل أن يمنع ذلك روسيا من اتخاذ إجراءات تصعيدية أكثر في حربها ضد أوكرانيا. وجاءت أول دفعةٍ من العقوبات مباشرة عقب اعتراف روسيا باستقلال إقليمَي لوغانسك ودونيتسك الانفصاليَين. وشملت العقوبات الأميركية خط نقل الغاز بين روسيا وألمانيا عبر بحر البلطيق، المعروف بـ "نورد ستريم 2"، وذلك بعد إعلان ألمانيا تعليق العمل به، وحظْر التعامل مع بنكيْن روسيَين، أحدهما عسكري. وتضمّنت، أيضًا، منعًا لتداول الديون السيادية الروسية في الأسواق الغربية، إضافةً إلى فرض عقوباتٍ على الأثرياء الروس المقرّبين من الكرملين وعلى أفراد عائلاتهم.
وبعد دخول القوات الروسية أوكرانيا، في 24 شباط/ فبراير الماضي، أعلنت إدارة بايدن بالتنسيق مع مجموعة السبع الكبار (G7)، إضافةً إلى أستراليا ونيوزيلندا وكوريا الجنوبية، عن إجراءات للحدّ من قدرة روسيا على القيام بأيّ أعمال تجارية بالدولار أو اليورو أو الجنيه الإسترليني أو الين الياباني، في مسعى لتقييدها في النظام الاقتصادي العالمي. كما شملت العقوبات بنك "في تي بي" أكبر بنوك روسيا، الذي يمتلك وحده أكثر من ثلث الأصول المصرفية الروسية، إضافةً إلى أربعة بنوك كبرى أخرى، تمتلك مجتمعةً ما يوازي تريليون دولار أميركي. وتوسعت دائرة العقوبات لتشمل التكنولوجيا المتطوّرة، بما في ذلك أشباه الموصلات، وذلك بهدف الحدّ من إمكانيات روسيا في تطوير قدراتها العسكرية والمدنية، بما في ذلك صناعة الطيران، على نحوٍ يقلل كفاءتها على المنافسة عالميًا، ويسدّد "ضربة كبيرة لطموحات بوتين البعيدة المدى". وفي اليوم التالي (25 شباط/ فبراير) أعلن البيت الأبيض انضمامه إلى الاتحاد الأوروبي في فرض عقوباتٍ تستهدف الرئيس الروسي ووزير خارجيته، سيرجي لافروف، وبهذا يكون بوتين أول رئيس لدولة كبرى يخضع لمثل هذه العقوبات، ولينضم بذلك إلى رئيسَي بيلاروسيا وسورية، ألكسندر لوكاشينكو وبشار الأسد.
يعدّ استهداف البنك المركزي الروسي الضربة الأشدّ التي يتلقّاها الاقتصاد الروسي
وفي 26 شباط/ فبراير، قرّرت الولايات المتحدة والمفوضية الأوروبية وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وبريطانيا وكندا عزل بنوك ومصارف روسية عن نظام SWIFT للتعاملات المصرفية والتحويلات المالية الدولية، وتوسيع دائرة الكيانات والأفراد، القريبين من الكرملين، بما في ذلك عائلاتهم، وتجميد أصولهم التي يمكن الوصول إليها في العالم، والحدّ من قدرة البنك المركزي الروسي على الوصول إلى احتياطاته من العملات الأجنبية، والمقدَّرة بـ 630 مليار دولار. ويعدّ استهداف البنك المركزي الروسي الضربة الأشدّ التي يتلقّاها الاقتصاد الروسي، وهي ترقى إلى محاولة تقييده، عبر حرمانه من الأصول والاحتياطات لتحقيق استقرار نقدي والتخفيف من وطأة العقوبات. وتعّد هذه الخطوة غير مسبوقة، إذ إنها تُتخذ أول مرة ضد دولة كبرى مثل روسيا.
وفي 28 شباط/ فبراير انضمّت الولايات المتحدة إلى دول أخرى في فرض عقوباتٍ على صندوق الثروة السيادي الروسي، وعلى إحدى الشركات التابعة له، ما ضاعف الضغوط على الروبل الروسي الذي فقد 30% من قيمته تقريبًا خلال الأسبوع الأول من الحرب. وفي الأول من آذار/ مارس 2022، أعلن بايدن في خطاب عن حالة الاتحاد أنّ وزارة العدل الأميركية ستشكل فريقًا لتعقّب ما أسماه "جرائم الأوليغارشية الروسية". أضف إلى ذلك أنّ واشنطن ستنضم إلى حلفائها الأوروبيين "في إغلاق المجال الجوي الأميركي أمام جميع الرحلات الجوية الروسية، ما يزيد من عزلة روسيا".
حسابات المواجهة
على الرغم من تشديد الولايات المتحدة وحلفائها في "الناتو" على أنهم لن يشاركوا عسكريًا في الحرب الدائرة في أوكرانيا، إلّا إذا جرى الاعتداء على دولة عضوٍ في حلف الناتو، فإنّ هذا لا يمنع وجود قلق غربي من إقدام روسيا على مزيد من التصعيد. فمن جهةٍ، بدأت العقوبات الاقتصادية تظهر على الاقتصاد الروسي، إذ انخفضت قيمة الروبل إلى مستوياتٍ غير مسبوقة، ما دفع البنك المركزي الروسي إلى رفع سعر الفائدة إلى 20% لوقف تدهور قيمة العملة ومنع تدفّق الودائع من البنوك الروسية إلى الخارج. كما عانت أسواق الأسهم الروسية أسوأ انخفاض في تاريخها، إذ فقدت 33% من قيمتها، وإن استعادت جزءًا منها بعد ذلك، وخفّضت وكالة التصنيف الائتماني، ستاندرد آند بورز، تصنيف ديون روسيا بشدة أيضًا. ويتوقع اقتصاديون أن تؤدّي العقوبات على روسيا إلى إفلاس عدد من بنوكها وحدوث تضخّم هائل، ما قد يشعل فتيل اضطراباتٍ شعبية داخلية تهدّد حكم بوتين.
ومن جهة أخرى، تساعد الولايات المتحدة أوكرانيا عسكريًا؛ إذ تمدّها بمعلوماتٍ استخباراتية عن تحرّك القوات الروسية داخل أراضيها، وتزوّدها مع حلفائها بمساعدات وعتاد حربي بكميات كبيرة. وفي 27 شباط/ فبراير، أعلنت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، أنّ الاتحاد الأوروبي سيموّل إمدادات الأسلحة لأوكرانيا، وهذا ما تفعله دول أخرى في "الناتو" أيضًا. وكانت إدارة بايدن وافقت خلال عام 2021 على تقديم مساعدات عسكرية لأوكرانيا بقيمة مليار دولار، بما في ذلك 350 مليون دولار من الأسلحة نُقلت إليها في الأسبوع الأول من الحرب، مثل الصواريخ المضادّة للدبابات والطائرات. وسمحت إدارة بايدن لكييف بسحب ما قيمته 200 مليون دولار من مخزونات الأسلحة الأميركية التي جرت الموافقة عليها في كانون الأول/ ديسمبر 2021، بما في ذلك صواريخ جافلين، وتدرس تزويدها بصواريخ ستينغر المضادّة للطائرات. وقامت ألمانيا بتغيير سياستها القائمة منذ الحرب العالمية الثانية، ووافقت على تزويد أوكرانيا بألف صاروخ مضاد للدبابات و500 صاروخ ستينغر. وكذلك فعلت دول أوروبية معروفة بحيادها، مثل السويد، في حين قالت فنلندا إنها تدرس الأمر نفسه.
لن تتوقف موسكو على الأرجح قبل أن تحصل على تعهداتٍ واضحةٍ بأنّ "الناتو" لن يقوم بتوسعات جديدة على حدودها
تزيد هذه الإجراءات من شعور الرئيس بوتين بالعزلة والحصار، وتخشى بعض الدوائر الغربية أن يدفعه ذلك إلى مزيد من التصعيد. وكان بوتين هدّد مع بدْء اجتياح أوكرانيا بأنّ أيّ طرف سيتدخل في الأزمة سيواجه "عواقب لم يختبرها في تاريخه".
خاتمة
لن تثني التكلفة الباهظة للعقوبات التي فرضتها واشنطن وحلفاؤها الرئيس بوتين على الأرجح عن المضيّ في بلوغ هدفه المتمثل بإخضاع أوكرانيا؛ إذ لم تنجح العقوبات في تغيير سياسات دول إمكاناتها أصغر بكثير من روسيا، كالعراق في عهد الرئيس صدّام حسين، وكوريا الشمالية وإيران وسورية. ويعدّ الاقتصاد الروسي، من حيث الحجم، الحادي عشر عالميًا، بقيمة 1.7 تريليون دولار، وهو ما يؤهله للتأثير في استقرار الاقتصاد الدولي. وعلى الرغم من أن الجيش الروسي يواجه صعوباتٍ في أوكرانيا، جرّاء افتقاده القوة البشرية اللازمة لتغطية كل مسرح العمليات الأوكراني الواسع (600 ألف كيلومتر مربع) وضعف الإمدادات اللوجستية، فإنه يبدو في وضع سيمكّنه، في النهاية، من السيطرة على المدن الكبرى، وتحديدًا العاصمة كييف، وإنْ بتكلفة أكبر مما كان متوقعًا، نتيجة الدعم الكبير الذي تحصل عليه أوكرانيا من دول الغرب.
ولن تتوقف موسكو على الأرجح قبل أن تحصل على تعهداتٍ واضحةٍ بأنّ "الناتو" لن يقوم بتوسعات جديدة على حدودها. ويبدو أنّ الكرملين يسعى، في المدى القريب، إلى انتزاع أكبر تنازلاتٍ ممكنة من أوكرانيا، مثل استقالة رئيسها وحكومتها ونزع سلاح جيشها، واختيارها الحياد. لكن، وفي كل الأحوال، سيكون ثمن اجتياح أوكرانيا كبيرًا على روسيا، جرّاء العقوبات غير المسبوقة التي فُرضت عليها، واحتمال دخولها في مستنقعٍ يستنزفها سنوات، وفي ظل عدم وجود حلفاء أقوياء لها يمكنها الاعتماد على دعمهم، باستثناء الصين. لكن الصين لم تؤيد الاجتياح الروسي لأوكرانيا، رغم أنها كانت ترفض محاولات توسّع حلف الناتو في شرق أوروبا ودوره المتزايد في منطقة المحيطَين، الهندي والهادئ. وعلى الرغم من أنّ الصين أعلنت أنها لن تلتزم العقوبات على روسيا، وأنها قد تستمرّ في شراء نفطها وربما تقديم قروض لها، فإنّ التوقعات ترجّح أنّها لن تغامر بتحدّي العقوبات الغربية على نحوٍ سافر، آخذةً في الحسبان مصالحها التجارية الكبيرة مع أوروبا والولايات المتحدة أيضًا.