حسابات أردوغان في قراءتين
استقبل كثيرون بدهشة القرار الذي اتخذه الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، قبل أيام، طرد عشرة سفراء أجانب، من بينهم سفراء الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا وكندا وهولندا. مبعث الحيرة أن القرار لا يطاول فقط دولاً كبرى، ذات تأثير سياسي واقتصادي وازن على الساحة الدولية، بل الأهم أن القرار يأتي في وقتٍ تواجه فيه تركيا أزمة اقتصادية حادّة يعكسها انفلات معدّلات التضخم التي بلغت 20% سنويا، وهي الأعلى منذ أزمة نهاية التسعينيات الاقتصادية الشهيرة، والتي حملت حزب العدالة والتنمية إلى السلطة عام 2002. كما تأتي الخطوة في ظل انخفاضٍ كبير في سعر صرف العملة التركية التي فقدت 80% من قيمتها خلال السنوات السبع الماضية، من ليرتين أمام الدولار عام 2014 إلى نحو 10 ليرات الآن.
هناك احتمالان لتفسير قرار أردوغان: الأول، أنه جاء في لحظةٍ انفعاليةٍ تغلبت لديه مشاعر الغضب على حسابات المصالح، وأن الدول الغربية نجحت في جرّه إلى فخٍّ من خلال الضرب على وتر حسّاس بالنسبة له، بإثارتها قضية رجل أعمالٍ معتقلٍ منذ خمس سنوات، للاشتباه بعلاقته بالمحاولة الانقلابية الفاشلة التي استهدفت إطاحة أردوغان عام 2016، ما دفع الرئيس إلى خطوةٍ غير محسوبةٍ تؤثر في وضع الاقتصاد التركي الصعب أصلا واستطرادا بحظوظ الرئيس وحزبه في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقرّر عقدها عام 2023.
الاحتمال الثاني، وهو الأرجح، أن أردوغان أقدم على هذه الخطوة بناءً على حساباتٍ اقتصاديةٍ وسياسيةٍ دقيقة، وأنه تعمّد اتخاذها في هذا الوقت تحديدا، لتحقيق أعلى عائدٍ ممكن. اقتصاديا، يبدو أن أردوغان يهدف إلى خفض سعر صرف العملة التركية، لأن ذلك يؤدّي، برأيه، إلى زيادة قدرة البضائع التركية على المنافسة في الأسواق العالمية، في حين تزداد كلفة البضائع المستورَدة من الخارج، وهي سياسةٌ تقليديةٌ تلجأ إليها الدول عادة لزيادة صادراتها وتخفيض وارادتها من السلع والبضائع والخدمات وتحقيق التوازن في ميزانها التجاري. يريد الرئيس أيضا، على ما يبدو، دفع المودعين إلى إخراج أموالهم من البنوك، وضخّها في مختلف قطاعات الاقتصاد، لإيجاد فرص عمل جديدة. لذلك يعمد إلى خفض سعر الفائدة، حتى يصبح العائد المصرفي أقلّ من مستوى التضخم. من جهة أخرى، يحاول الرئيس، في إصراره على تخفيض الفائدة، تخفيف عبء الديْن العام، من خلال رفع مستوى التضخّم، وبالتالي تقليل قيمة الدين. والملفت أن أردوغان يُقدم على ذلك، بعد أن تأكّد من خروج معظم الرأسمال الأجنبي من سوق الدين التركي، فمنذ أحداث حديقة غازي عام 2013، والتي يرى كثيرون أن هدفها كان إسقاط أردوغان، والبنوك والمؤسسات المالية الغربية تتخلّص من حيازاتها من الديون التركية، فنزلت حصتها من قيمة الدين العام التركي من 30% إلى 5% حاليا. هذا يعني أن أردوغان ليس عليه أن يقلق كثيرا من ردّ فعل القوى الغربية، بسبب افتقادها أهم أدوات التأثير في الاقتصاد التركي، وهي الديون. أما سياسيا، فيعتقد أن أردوغان أراد، من خلال طرده سفراء أهم دول الغرب دفعة واحدة، تحقيق مكاسب سياسية تتمثل في حشد الرأي العام التركي وراءه، تحت عنوانٍ يستثير حمية الأتراك، وهو حماية السيادة الوطنية، في مرحلةٍ يتآكل فيها رصيده الشعبي بقوة. فوق ذلك، يرى أردوغان أن الوقت حان لإثبات أن تركيا اليوم ليست تركيا الأمس، وأن زمن تدخّل السفراء والقناصل الأجانب في شؤونها الداخلية قد ولّى، فتركيا باتت قوة إقليمية كبرى، ولديها قاعدة زراعية وصناعية (عسكرية ومدنية) متطوّرة، ولا يملك الغرب أن يضحّي بالعلاقة معها، في ظل الاستقطاب الكبير الحاصل في النظام الدولي حاليا، وفي وقتٍ تتبدّى فيه ملامح اصطفاف صيني- روسي- إيراني، إذا مالت تركيا إليه، فسوف يوجّه ذلك ضربة قاصمة لجهود واشنطن في احتواء الصعود الصيني. هذا يبرّر ربما تراجع الولايات المتحدة وكندا وهولندا، وإعلان امتثالها للمادة 41 من اتفاقية فيينا الخاصة بتنظيم العلاقات الدبلوماسية، والتي تنصّ على "عدم إخلال الدبلوماسيين بامتيازاتهم وحصاناتهم واحترام قوانين الدولة المضيفة وأنظمتها، وعدم التدخل في شؤونها الداخلية".