حزب الله وحكم الذي لا يحكم
لبنان، العريق بأصناف شاذّة من الحكم، بأخلاقيات سياسية هجينة. لبنان هذا، الذي توالت على ربوعه أشكال عجيبة من الحكم، لم يعرف، ولا عرف نظراؤه العرب، "حكماً" شبيها بذلك الذي يمارسه حزب الله الآن: حكم بلا حكم، يتصدّره خرّيجو الحوزات، حكم التقية والحماسة، حكم المظلومية والتجبّر، حكم الصوت الجهوري بلا حاجة، والخافت المنخفض عندها. حكم بحزب يمتلك السلاح والصواريخ والأدوار غير الوطنية، حزب لا تعرف له مؤتمراً ولا انتخابات ولا رؤية، إلا جمهوريته "الإسلامية"، التي أخفاها بين الرفوف، مؤقتاً ربما. حزب لا يملك رخصة، يمارس كل أنواع المخالفات الدستورية القانونية. في البداية على استحياء، والآن، من دون ورع، يستولي على أراضي غيره، يخطف، يبتزّ، يهدّد، يرغم.. حزب يقتل لبنانيين، سوريين، عرباً. في حربٍ طاحنةٍ يخوضها ضد كل من تسوّل له نفسه فكرة مخاصمة إيران. حزب ضرب كل قواعد التعامل "المعتمدة" بين الدول والحدود والشعوب. حزب يعلن حروباً في لبنان وفي غيره، تُكلّف مليارات من الدولارات، في منطقةٍ تحوّلت شعوبها إلى الشِحاذة.. إلى ما هنالك من مهالك لا تسعها هذه الصفحات.
بالمقارنة مع غيره من مليشيات العصابات المأجورة، أو المرتزقة، يبدو حزب الله ظاهرةً غير مسبوقة. ومنبع "طليعيته" من بين أشباهه هو حاجته الملحّة للدولة اللبنانية بأعمدتها المتهالكة ليخطفها ويفرض سلاحه على عقيدتها، ويُلزمها بقراراته وتوجهاته. ويعود الفضل بذلك إلى استثنائية لبنان نفسه: طائفية نظامه الطائفي، ومحوره المحرِّك الذي جعل الطوائف كياناتٍ سياسية متناحرة، على حصص وامتيازات وأدوار، فكانت الطبيعة التي نشأ عليها السياسيون اللبنانيون، فجعلتهم سينكيين، أصحاب "برامج" تتراوح بين أولوية عروشهم الصغيرة والتصدّي لافتتان آخرين بفُتات هذه العروش، وأحياناً بالعروش كلها.. وهي شهوة تعشَّقت بالفساد، أصّلته، وبنت بعواطفه جبالا من الزبائنية التاريخية، تضرب جذورها في عمق بنيان الدولة نفسها.
انقضّ حزب الله على ما تبقى من الدولة، وصار هو الذي يتخذ قراراتها، ولو خلف خطاب
أبدع حزب الله بالتكيّف مع نظام هذه الدولة، وأرسى معادلةً سرعان ما "تطورت". في البدء قال لشركائه الضعاف: لكم مال الدولة، ولي سلاح المقاومة. ومع الوقت، عندما تجمّدت "معاركه" مع إسرائيل، وأصبحت لها "قواعد اشتباك"، وضع كل سلاحه بخدمة فرض سطوته الكاملة على اللبنانيين، وضعفت الإرادات المطالِبة بنزع هذا السلاح.. فانقضّ حزب الله على ما تبقى من الدولة، وصار هو الذي يتخذ قراراتها، ولو خلف خطاب. ولكن، كله بلباس "المؤسسات". وهي لعبةٌ تقوم على إخفاء المليشيا الحاكمة خلف مؤسساتٍ رسمية، خرقتها وأخضعتها، وقالت هي الدولة التي اقترفت كذا وكيت من الجنايات، وليس نحن.
وسبحنا هكذا، لسنوات، في بحر الجمهورية صاحبة الادّعاء بأن لديها برلمانا ومجلس وزراء ورئاسة جمهورية؛ يهاجمهم الحزب عندما لا يرضى عنهم، يضغط عليهم أو يزيحهم، فينسحبون أو يستقيلون، أو يستمرّون بأجنحة متكسِّرة. كم من الرجال احترقوا بهذه النار، أو أحرقوا خصومهم بها؟ عشرات السنوات، وبقي وجه حسن نصر الله الأبدي، من تحت الأرض، خلف الشاشة، حراً طليقاً.. يرفع صوته وإصبعه، يطلق القرار التالي، الذي على الدولة تنفيذه .. إلخ.
يعني: "حزب" الله يقرّر، يشلّ، يعطّل، يختار، يصعّد، يُنزل، يطْعن، يقتل، يخْنق، يسعّر، يحرّض، يغطّي على المهربين والمجرمين، يخرق القانون الدستور والحدود .. ولكن من يحاسبه على هذه المعاصي؟ هذا أو ذاك من الرجال، أو تلك المؤسسة، أو ذاك الرئيس، أو الموظف، أو القاضي؟ نوعية عبقرية من الحكم، عمقها ديكتاتوري، وواجهتها "ديموقراطية برلمانية". تأخذ البلاد إلى المهالِك، فيما غيرُه يحاسَب عليها: الدولة هي ستارة حزب الله، تخدم مخطّطاته، وهي، في الوقت نفسه، قميص عثمانه.
الحزب أقوى وأقوى الآن، يرفع نبرته، يطلق العنان لإعلامه ولمختلف "الشخصيات" الموالية له.
كنا في هذه الحالة عندما دهمتنا قنبلة جورج قرداحي ومقاطعة دول الخليج لنا. وكانت الحكومة قبلها معطّلة على أثر قنبلة أخرى، هي التهديد العلني والصريح، بأن لا جلسة بعد اليوم إن لم "يُقبَع" المحقِّق العدلي في انفجار المرفأ، طارق البيطار. وذلك بأمرٍ مباشر من حسن نصر الله، في خطبه الثلاث الأخيرة. إذن، هذه الأزمة المزدوجة لا تهزّ حزب الله وقيادته بأي عصا. الحزب أقوى وأقوى الآن، يرفع نبرته، يطلق العنان لإعلامه ولمختلف "الشخصيات" الموالية له. فيما الوزارة مستمرّة بتعطيلها، ورئيسها يستجدي العون من الأميركيين والفرنسيين، على أساس أنهما اللذان دعماه في تعيينه رئيساً. هو صاحب "تدوير الزوايا"، أي الخضوع لمشيئة حزب الله، الذي لم يترك تنازلا "رسمياً" إلا وقدّمه مقابل أن يأتي إلى هذا المنصب الأرفع. هو "رجلهم" عند السنّة، الذي شكّل حكومته بإملاءاتٍ مباشرةٍ وغير مباشرة من الحزب. هذا الرجل مرتبك الآن. بلغ لحظة الحقيقة، ومهدَّد بتعطيل دوره، أو استقالته او "استنكافه"، ومعه مؤسسة رئاسة الوزراء، ومعه كل البلاد (هذا إذا توخّى المرء "عملاً" من الوزارات ...).
وكأن حزب الله يرفع أمامه مقايضة: القرداحي مقابل البيطار. علماً أن الأزمة مع العربية السعودية انجرفت إلى ما وراء قرداحي و"تصريحه" الساذج. الآن، كيف يكون "الحل"؟ لو وُجدت إرادة له؟ فيما المعروف أن تصريح قرداحي هو من قلب "الأيديولوجيا" الممانعة؟ هل تعود الحكومة إلى الانعقاد كأن شيئاً لم يكن؟ وكأن قرداحي وحده يفكّر بأن الحوثيين هم من "المقاومين"؟ وكأن أية حكومة جديدة آتية ستتشكل من أحرار؟ وكأن مجلس الوزراء يستطيع الاستمرار بالافتراض أن له دورا وهو صاحب القرار؟ أم يأخذ حزب الله بمقابض الدولة ومؤسساتها صراحة، من دون واجهات، ويعلن حكمه "الرسمي" لبنان؟ فتكون المعركة مكشوفة؟
منبع "طليعية" حزب الله من بين أشباهه حاجته الملحّة للدولة اللبنانية بأعمدتها المتهالكة ليخطفها
وخلف هذا الابتزاز، وبعد رئيس الحكومة الضائع، هناك رئيس جمهورية يمغْمغ، ورئيس مجلس النواب يناور، بلا أرانب هذه المرّة .. وخذْ على حكم وقرارات "وطنية" .. من دون أن يتخلّى حزب الله قيد أنملة عن ممارساته المليشياوية: مثل أي مرّة أرغم أصواتا من بيئته على تسجيل فيديوهات الطاعة الكاملة له.. أرغم الحزب رئيس لجنة أهالي ضحايا انفجار المرفأ، إبراهيم حطيط، على تسجيل فيديو الهجاء ضد طارق البيطار، هو الذي كان يقود تظاهرات الدعم له، ويردّ على التهديدات بالقتل من دون خوف، فصار "منشقّاً" الآن عن لجنة الأهالي هذه التي شارك في تأسيسها، يقود تظاهرات النقيض، المعادية لها وللبيطار.
فوق الابتزاز، يطلق الحزب العنان لعنصرية لبنانية ضد أهل الخليج. عنصرية متسلّحة بفوقية من اتصل باكراً بالغرب، وتخلى عن هندامه وطرق عيشه "البدائية"، معطوفة على تقاليد يسارية غابرة، يوم كانت السعودية على رأس القطب المعادي لجمال عبد الناصر. تقاليد مفيدة للبروباغندا المعادية للسعودية؛ من دون الانتباه إلى تلازم صريح بين "العرب" وأولئك السعوديين أصحاب "الحطَّة والعِقال" (بحسب أحد كتابهم). يزايد في "حرية التعبير" وفي "السيادة الوطنية" بوجه السعودية، فيما هو غارقٌ في التبعية والقمع السافر والمبطن. كل هذه الصلافة ترافقها حملة تظلّم مثيرة للشفقة: من أن حزب الله يتعرّض لهجوم آثم منظّم، من أن الأعداء يحاصرونه، من أن هؤلاء الأعداء هم أصدقاء إسرائيل الجدد، من أنه ما زال وفياً للقدس. والدموع تنهمر، فنعود إلى مرحلة المحرومية الشيعية، وإلى ما قبلها .. كربلاء وسيدنا حسين المظلوم.
كل هذا لا يهوِّن على لبنان خروجه من محنته. الأزمة مع السعودية لم تثر مسألة حزب الله وحده، مع أنها محورها ومعضلتها، إنما استعادت مسألة في غاية الراهنية: هل ننهض من نكبتنا؟ وكيف؟ كيف نعود ونُرزق؟ ما هي مواردنا؟ هل نصنع، أم نتاجر، أم نزرع، أم نتوسّط، أم نخدم، أم نصدّر أبناءنا إلى المهجر؟ ومعها أسئلةٌ لا تقلّ إلحاحاً: كيف سنحلّ مشكلتنا مع السعودية؟ كيف نبطّئ نزولنا إلى الجحيم؟ كيف نُبقي قنواتنا شغالة مع العالم؟ كيف ننقذ مئات الآلاف من العودة إلى جحيمنا، بعدما هربوا منها، وبأثمان باهظة؟