حزب الله سلطةٌ تحتاج إلى الوصف؟
يصعب أن يغيب المشهد عن البال: أولى تظاهرات الثورة اللبنانية. في ساحة رياض الصلح في بيروت منذ أكثر من سنة بقليل. الشباب يتجمْهرون استعداداً للانطلاق نحو ساحة الشهداء. "شباب"، لا عجزة .. وفي غمرة تأهّبهم، ينقضّ عليهم فجأة شباب آخرون، بثيابٍ سوداء، حاملين العصي، يردّدون "لبيكَ نصر الله لبيكَ نصر الله". فيضربونهم، يشتمونهم، يدفعونهم بعنف، أرضاً أو باتجاه الرصيف. تتدخّل قوى الأمن للتفريق بين المتظاهرين والمعتدين عليهم: جزء في الأعلى، عند ناحية السرايا. وجزء آخر، أقرب إلى ساحة الشهداء. بضع دقائق من الجمود، وردود مستنكرة، خافتة وضئيلة. لا تشمل غالبية الشباب المعتدى عليهم. بعد ذلك، يتمّ "التوافق" القسري على إذاعة خطاب أمين عام حزب الله، حسن نصر الله، من على شاحنة محمّلة بمكبرات الصوت، موضوعة تحت تمثال الشهداء، في قلب ساحة التظاهر. ساعة وأكثر. "يحرُسه" الشباب المعتدي نفسُه، وهم واقفون على درج مسجد الأمين، بتعبيرات الاستنفار والتحدّي الواضحة. حتى نهاية الخطاب، ثم ينفضّون، ويتركوننا لبقية الأمسية، نتابع صراخنا وأهازيجنا الثورية.
المشهد بالنسبة لي مستهْجن. ليس لأن شباب الحزب يطعموننا القتْلة، ويفرضون علينا خطاباتٍ لشخصيةٍ تنْعتنا بـ"عملاء السفارات". ولكن بسبب ذاك السكوت عن الاعتداء، وترك الساحة مؤقتاً لأنصار الحزب المعادي للثورة، بلا كلمة احتجاج واحدة، وبصمتٍ مهين. بشيء من "التسليم" المناسب لعمر متقدّم، لا عمر الفوَران والطاقات الطبيعية المتفجرة. ألتفتُ إلى بعض من أولئك الشباب، أطرح عليهم السؤال: لماذا ردّة فعلكم شديدة الهدوء، هذه، المغالية بهدوئها؟ وكان الجواب المجْمع عليه، مع فرق بالنبْرات، فخلاصة إجاباتهم: الحزب "قوي"، لا نستطيع الكثير إزاءه، وليس الآن موضوعنا، وإننا لا نريد "فتنة"، ولا حربا أهلية. ولسنا مغامرين، ولا "طفوليين" .. إلى ما هنالك من جمل قصيرة، صارت لاحقاً لازِمة يعتمدها جناحٌ تشكّل بشطارة شديدة، عبر اختراق الثورة بمن يسمّون أنفسهم "أعداء الأوليغارشية المصرفية"، من دون غيرها من أطراف الحكم. وهذا الخرق من النوع الذي سمح بتشكّل "جناحٍ" ممانع، محسوبٍ على الثورة.
وضعية "الصبر الاستراتيجي" الطويل بانتظار أي فرج، تغذّي السجال الحاصل، بين الولاء لحزب الله أو السكوت عنه والعداء له
المهم أنه بعد هذا الحدث "التدشيني" الأول هذا، أعاد حزب الله وحليفته حركة أمل، الاعتداءات نفسها على الثورة. وعشرات المرّات. باللسان وبالعضلات، بالخطب التشكيكية والتخوينية، وبالمناورات الحكومية المعهودة. ومع الوقت، مع استنزاف الطاقات الثورية، مع كل حدثٍ مهم، مع كل سجالٍ ضعيف أو موسمي أو عابر .. تحضر حجّة أولئك الشباب، ومعها واقعٌ بدأ يترسّخ ويهدِّد مفهوم الثورة نفسها.
إذ دخل في الخيال اللبناني أن الثورة باتت منقسمة بين ثلاثة أجنحة. واحد ضد حزب الله، والثاني معه. والثالث، القليل، أو ربما الكثير، يقف بينهما. وفي قلب الـ"بيْن بيْن" هذه تجاذبٌ بين من "لا يستطيع شيئاً ضد الحزب، أي اليأس، والذي يستطيع الكثير، أو يعتقد ذلك، ويصمّم على أن الحزب هو عرين السلطة المجرمة الفاسدة. وبزواله، تنبثق سلطة جديدة، باللون الذي يرغب. أو طرف ثالث يرى، يتصرّف ويحلّل، وكأن الحزب خارج الأطر السلطوية المعروفة. (مثال غير حصري: انظر إلى الرجل الذي احتفلت الثورة بفوزه بنقابة محامي بيروت بصفته إنجازاً للثورة، نقيب محامي بيروت المحامي ملحم خلف. "مبادرة الإنقاذ" التي أعلن عنها قبل أيام تتجاهل تماما حزب الله. علماً أنها، أي المبادرة، ذات مرحلتَين، أي راغبة بأن تبدو دقيقة ومفصّلة).
دخل في الخيال اللبناني أن الثورة باتت منقسمة بين ثلاثة أجنحة. واحد ضد حزب الله، والثاني معه. والثالث، القليل، أو ربما الكثير، يقف بينهما
وأخطر الحجج الداخلة بصمت على هذا السجال: "موازين القوى الإقليمية" لا تسمح بإزاحة هذا السلطان الرابض على فريسةٍ اسمها لبنان. ويجنح هذا الإقرار الحزين إلى التفكير بأنها وحدها قوة خارجية، أو عامل خارجي، يمكنهما القضاء على هذا الأسد. وبأننا لا نستطيع شيئا بأيادينا. فلا يشرد هذا الإقرار كثيراً ليتنبه إلى أن إسرائيل هي تلك القوة القادرة على إلحاق الضربة المتمنّاة ضد حزب الله. وأحياناً، "ولو على حساب لبنان كله". بشيءٍ من الرجاء السحيق المخبأ في الصدور، بما يشبه التقيّة. ولا حاجة إلى التذكير بخطورة أحلامٍ كهذه، لو تحققت. ويلات .. أين منها ما سبقها. وإذا لم تتحقّق هذه الأحلام، فهذه مصيبةٌ أخرى، ربما أقلّ دموية. ولكنها ليست أقل قدرةً على تعميم الخراب. أو بالأحرى، يتساوى الاثنان بالضراوة.
والحال، إن وضعية "الصبر الاستراتيجي" الطويل بانتظار أي فرج، تغذّي السجال الحاصل، بين الولاء للحزب أو السكوت عنه والعداء له .. وتجاذب بين الولاء والعداء. وبمقوّيات واحدة، هي التكرار والركود. والاثنان يفخِّخان العقل، ويحوّلانه إلى بحيرةٍ آسِنة. ننظفها، أو نعتنق منها بطرح أسئلة بسيطة:
- السلاح المتفلِّت؛ بالمقارنة معه، يصبح حزب الله صاحب سلاح "منْضبط ومضْبوط". بعضه شبح من أشباح الحزب. أياديه الوسخة. بعضه الآخر تقليدٌ له، بصفته الأقوى. وبعضه الثالث معادٍ له. وبعضه الأخير "أهلي بمَحَلي"؛ عشائري، أحيائي، مناطقي. الفردي منه والمجموعاتي، "يغطيه" الحزب أو رافدٌ من روافده، أو يخاصمه. والاثنان يفرضان شروطهما على الحزب، وبدرجاتٍ وبألوان، أو على الأقل يفاوضانه على "حقوقهما" أو امتيازاتهما أو نفاذهما من جنحة أو جريمة .. إلخ. والسلاحان أيضاً، الفردي والجماعي، يتسللان، أو تتسلل إليهما مجموعات منظمة تشتري خدماتهما على القطعة أو بالجملة. من هم هؤلاء "الطفيليون" المستفيدون من سلاح حزب الله؟ أو "المتوافقون، المتفاهمون" معه، أو المعادون له؟ لا نعرف بالضبط. ولا نعرف درجة تماهيهم مع الحزب. أو طبيعة ولائهم له، أو معاداته. وثمّة حاجة لوصفهم.
لم يعُد شعار "كلن يعني كلن" يلبّي "طبيعة المرحلة"
- "الشركاء في الحكم". هل هم ضعفاء فعلاً كما يحلو لهم أن يقولوا؟ أم أنهم يستضعفون أنفسهم، بغية الابتزاز أو نيل مزيد من حصص الدولة المنهوبة؟ وهم في وسعهم ذلك، بسهولةٍ نسبيةٍ. وثمن قوتهم أنهم ارتضوا أن يكونوا "الواجهة" المقبولة دولياً، رسمياً، للدويلة غير القانونية، غير الشرعية، التي أقامها حزب الله في لبنان. وهذا اسمه تواطؤ سياسي. تواطؤ صامت، يتيح لهم مشاركة الحزب في حرية الافتراء والكذب، إفساد الدنيا والآخرة. والأدهى من ذلك كله التمهيد للدولة البوليسية. ثمّة حاجة أخرى لوصف تلك العلاقة.
إذا كان حزب الله حاكماً مطلقاً، ولكن متدثّراً بلحاف الدولة ومؤسساتها، فعلى المدقِّق بحساباته أن يعيّن مكْمن إطلاقية هذا الحكم، فعل كشف وانكشاف، على الأقل. أما إذا كان يتقاسم جزءاً من السلطة مع غيره من المتواطئين معه، والرافعين صوتهم ضدّه في آن، فعلى المدقّق ذاته أن يصف لنا هذا التناغم الآثم الذي لا يستطيع أولئك الشركاء الإفصاح عنه، من دون خسارة جزء من رصيدهم التحاصصي؛ وهو كل أملهم ومبْتغاهم. احتراماً للواقع على الأقل. لكي لا يبقى حزب الله فزّاعة تحتجب خلفها الطيور الجارحة.
لم يعُد شعار "كلن يعني كلن" يلبّي "طبيعة المرحلة"، فأمام مجموعة الـ"لكن" التي تتصدّر الاعتراض عليه، لتستثني زعيمها من الإدانة، صرنا بحاجةٍ إلى إضافة "توضيح": "كلن يعني كلن: كل واحد منهم بوجه دقيق من الأوجه".