حرّيات معلّقة وحقوق مهدّدة في تونس

04 مارس 2023
+ الخط -

عندما اعتقلني البوليس السياسي (في تونس) مطلع الثمانينيات، تطوّع للدفاع عني محامون عديدون، منهم المناضلة الحقوقية راضية النصراوي زوجة المعارض اليساري حمّة الهمامي. في تلك الأيام، عرفت أول مرة أهمية الإجراءات في تنفيذ القانون وتحقيق العدالة وحماية الحقوق والحريات. وعندما انخرطت بعد مغادرة السجن في الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، وأصبحت تدريجياً نائب رئيسها، أدركت أن جزءاً واسعاً من مهام الحركات الحقوقية هو الحرص على تقييد تصرّفات السلطة التنفيذية، وبالخصوص جهاز الشرطة، بإجراءات عديدة، مع التأكيد، في الآن نفسه، على أن ظلم الحاكم، مهما كان جنسه واستبداده، يُقاس بدرجة عدم احترام تلك القيود والضوابط.

انتشرت هذه الثقافة الحقوقية نسبياً في صفوف شرائح عديدة من التونسيين، بمن فيهم سجناء الحقّ العام الذين أصبحوا يحتجون بحقوق الإنسان خلال المداهمات الأمنية، وهو ما جعل كل من يتحمّل مسؤولية في البلاد يواجِه تياراً واسعاً يرفض بقوة المساس بكرامة المواطن وحرّيته. لكن تونس عادت هذه الأيام لتخوض معركة شرسة حول مسألة احترام الإجراءات القانونية، حيث تؤكّد أطراف عديدة، سياسيون ومحامون وحقوقيون ونشطاء وإعلاميون ومنظمات دولية، أن رئيس الدولة، قيس سعيّد، لا يولي أهمية لهذه الإجراءات، ويعتبر أنها "وضعت لضمان المحاكمات العادلة لا للإفلات من المحاسبة" التي جعل منها شعاراً مركزياً لفترة حكمه من دون أن تتحوّل إلى سياسة ملموسة تشمل الفاسدين الحقيقيين، رغم صلاحياته المطلقة. وهو ما أعاد لبعض الأجهزة الأمنية السطوة التي كانت تتمتع بها قبل الثورة، حسب اعتقاد الأوساط الحقوقية. يرفض سعيّد هذا الاتهام بقوة، لكن الأمثلة والوقائع الثابتة تؤكد أن هذه التجاوزات لم تعد استثناء، إنما أصبحت سياسة دولة، حسبما تؤكّده تقارير داخلية ودولية عديدة.

لقد رفض رئيس الدولة بوضوح الحكم الذي صدر عن المحكمة الإدارية، إعادة عشرات القضاة إلى وظائفهم، بعد طردهم بقرار رئاسي شهير، هو الأول من نوعه، رغم عدم ثبوت الاتهامات التي وجّهت إلى معظمهم، بما في ذلك تهمة الزنا التي ألصقت بإحدى القاضيات من دون أي دليل!

كما ذُهل الحقوقيون والمحامون من حجم التجاوزات التي سجّلت خلال الإيقافات التي شملت، أخيراً، شخصيات سياسية وإعلامية ورجال أعمال بتهم واهية، حسبما أكّد المحامون، وهي تهم تتعلق بأمن الدولة تصل أحكامها إلى الإعدام. وتعتبر قضية القاضي المعزول البشير العكرمي مثالاً مخيفاً في هذا السياق، إذ رغم تاريخه الطويل في مهنته، عومل بطريقة اتفق الحقوقيون على اعتبارها غير قانونية وغير إنسانية. فالرجل اعتُقل ومثل أمام حاكم التحقيق الذي اعتبر التهمة واهية فأطلق سراحه. ورغم ذلك، تدخلت الشرطة ورفضت تسليمه لأهله، وحوّل مباشرة من أمام المحكمة إلى مستشفى الأمراض العقلية، ثم أعيد سجنه من دون أن يسمح له بالدفاع عن نفسه ضد التهم التي وجّهتها له هيئة الدفاع عن شكري بلعيد ومحمد البراهمي بإتلاف وثائق وطمس أدلة لها علاقة بالاغتيالات وتسفير الإرهابيين إلى بؤر التوتر.. وبعد مدة قصيرة، طُرِد أحد حكام التحقيق من مكتبه ومن العمل، بسبب رفضه اعتقاله نقابياً اعتبرته السلطة متهماً، واعتبره بريئاً في غياب دليل قاطع.

في وضعٍ كهذا، يفقد القانون معناه وعلويته وسلطته، وتصبح الحقوق والحرّيات معرّضة للهدر والانتهاك، فما يعتبره بعضهم شكلياتٍ يمكن إسقاطها وتجاوزها بيسر، بحجّة تحقيق "مصلحة الشعب أو الدولة"، ما يراه فلاسفة القانون والمختصّون في حقوق الإنسان من شروط تحقيق العدالة، إذ بدون ذلك يفقد القضاء سلطته واستقلاليته، لأن الشكل مرتبط بالجوهر، وهو ما دفع بالمحامي أحمد صواب الذي كان من قبل أحد رموز المحكمة الإدارية إلى القول إن "ضمير القاضي المستقل اليوم قد يؤدّي به إلى العزل".

الغريب أن هناك من نسوا المثل "أُكلت يوم أكل الثور الأبيض"، فأظهروا الشماتة في خصومهم، لكن العاقل من لا يثق في اتجاه الرياح.

266D5D6F-83D2-4CAD-BB85-E2BADDBC78E9
صلاح الدين الجورشي

مدير مكتب "العربي الجديد" في تونس