حركة النهضة ... جدل الاستمرارية والمراجعة النقدية

16 يونيو 2023

مقرّ حركة النهضة في العاصمة تونس (20/4/2023/الأناضول)

+ الخط -

تعدّ حركة النهضة، ذات المرجعية الإسلامية، فاعلا سياسيا بارزا داخل الاجتماع التونسي قبل الثورة وبعدها. وقد مرّت على تأسيسها 42 سنة، وهي فترة طويلة، تقلّب خلالها الحزب المقالب كلّها، فقد عمل في كنف السرية زمن الحبيب بورقيبة وخلفه زين العابدين بن علي. وتوزّع أنصارُه بين السجون والمنافي سنين عددا. فيما قضى آخرون نحبهم بسبب الإخفاء القسري أو الإهمال الطبي أو التعذيب داخل المعتقلات. وعانى غيرُهم ويلات المراقبة الإدارية والمنع من العمل والسفر طويلا.

وحرّرت ثورة 2011 المجيدة الحزب المحظور من الأسْر والسرّية، فانتقل إلى العمل العلني، وحصل على مراتب متقدّمة في الاستحقاقات الانتخابية. وحكم البلاد خلال عشرية الانتقال الديمقراطي (2011 -2021) بالشراكة مع أحزابٍ ذات خلفياتٍ أيديولوجية علمانية مختلفة (المؤتمر من أجل الجمهورية، التكتّل من أجل العمل والحريات، نداء تونس، التيار الديمقراطي، حركة الشعب). وساهمت حركة النهضة بقدرٍ معتبرٍ في وصول قيس سعيّد إلى سدّة رئاسة الجمهورية. فقد صوّت له أنصار الحزب بكثافة في الدور الثاني من رئاسيات 2019. لكنّ زمن العسل بين الطرفين لم يدم طويلا، فقد احتدم النزاع على الصلاحيات بين سعيّد وزعيم حركة النهضة، رئيس البرلمان السابق راشد الغنوشي بشأن إدارة ملفّ العلاقات الخارجية خصوصا.

واغتنم ساكن قصر قرطاج فشل حكومة هشام المشيشي في إدارة أزمة كورونا، وحلّ الأزمة الاقتصادية الخانقة، فقلب الطاولة على نظام الحكم البرلماني المعدّل، ووضع نظاما رئاسيا مطلقا بديلا عنه. وتمّ في هذا السياق حكم البلاد بالمراسيم الرئاسية، وحلّ الحكومة، والمجلس الأعلى للقضاء، وهيئة مراقبة دستورية القوانين، وغلق البرلمان، وتغيير دستور 2014، وتعديل هيئة الانتخابات والقانون الانتخابي على طريقة قيس سعيّد. وعدّت حركة النهضة ذلك انقلابا على الدستور والشرعية الانتخابية والتجربة الديمقراطية. وبعد أن آل الأمر لرئيس الجمهورية، وبسط نفوذه على كلّ السلطات التي حوّلها إلى وظائف تابعةٍ للجهاز التنفيذي، انصرفت منظومة 25 يوليو (2021) إلى فتح ملفّات قضائية ضدّ خصومها السياسيين. ومن بينهم قياديون في حركة النهضة تمّ توجيه تهم ثقيلة لهم على خلفية مواقفهم السياسية من النظام القائم، بحسب إفادة محاميهم ومنظمات حقوقية. وتواجه حركة النهضة، في هذه الفترة الدقيقة من سيرتها، عدّة تحدّيات، لعلّ أهمّها ضمان الاستمرارية، ولزوم السلمية، وحتمية المراجعة النقدية.

بدت حركة النهضة في حمأة الأزمة ميّالةً إلى التشبّث بخيار السلمية، حفاظا على كيْنونتها، وعلى السلم الاجتماعي، وخدمة للصالح العام

حلّت الذكرى 42 لتأسيس حركة النهضة في ظلّ محنة تعيشها، مردّها إقدام النظام الحاكم على اعتقال عدد من رموزه وغلق مقرّه المركزي في العاصمة التونسية ومنع النشاط في مكاتبه الجهوية. وهو ما جعل الحزب يواجه تحدّي الاستمرارية في زمنٍ تراجعت فيه الديمقراطية محلّيا، وإقليميا، ودوليا، وتمدّدت فيه الشعبوية والسلطوية. والمراد، بحسب مراقبين، من إيقاف قيادات من الصف الأوّل من حركة النهضة إظهار قوّة النظام القائم وقدرته على محاصرة حركة أكبر حزب معارض في البلاد، وقصقصة أجنحته الفاعلة، وتحجيم دوره في المجال العام، وقدرته على تحشيد الشارع، سيما أنّه المكوّن الرئيسي لجبهة الخلاص الوطني المعارضة. وبدا واضحا أنّ السلطات لم تعلن حملة اعتقالاتٍ عشوائية، واسعة في صفوف أنصار حركة النهضة. بل ركّزت أساسا على اعتقال ناشطين بارزين وقياديين فيها بغرض شلّ الفاعلية التسييرية للحركة، وكذا حتّى لا تستثير الرأي العام الحقوقي المحلّي والدولي ضدّها، وحتّى لا تفقد قدْرا كبيرا من تأييد الجمهور المحافظ الذي صوّت لقيس سعيّد في رئاسيات 2019.

وبدا جليّا أنّ حركة النهضة تفاعلت مع اختبار الاستمرارية بانتهاج نهج الكمون، وسياسة الانحناء للعاصفة، فاتّسم خطاب بعض قياداتها الجديدة في زمن محنتها المشهودة بدرجة معتبرة من المرونة والواقعية والاعتدال. وذلك حفاظا على وضعها القانوني، ورصيدها الشعبي، وتماسكها التنظيمي. كما حاولت الحركة، في السياق نفسه، تحويل المحنة إلى منحة، وترجيع خطاب المظلومية، والظهور في مظهر الضحية من خلال إشهاد العالم على النظام الحاكم. وذلك بغرض استبقاء الأنصار وكسْب عطف الأغيار، وضمان الاستمرار على كيْفٍ ما.

على صعيد آخر، بدا لافتا أنّ تفاعل حركة النهضة مع تدابير حركة 25 يوليو (2021) ومخرجاتها كان احتجاجيا غلبت عليه السلمية، وراوح بيْن بيانات التنديد والإدانة لسياسات النظام القائم، وتنظيم وقفاتٍ دوريةٍ ومظاهرات احتجاجية ضدّ مشروع قيس سعيّد في إدارة دواليب الدولة. ولم ينخرط الحزب في مسار الردّ العنيف على المبادرات الرئاسية (الاستشارة الإلكترونية، الاستفتاء على الدستور، تنظيم انتخابات تشريعية ...). بل اكتفى بنقدها أو الدعوة إلى مقاطعتها. ولم يدخل في مواجهاتٍ صداميةٍ مع القوات الأمنية، بل لزم سياسة ضبط النفس والنشاط في حدود القانون، وبدا ميّالا إلى مدّ اليد إلى الفرقاء السياسيين بحثا عن حلٍّ لأزمات البلاد على طاولة حوار بيْني تونسي. وساهم ذلك في تعزيز التوجّه السلمي، والطابع المدني للحركة، ونأى بها عن الحركات الإسلامية المتطرّفة، وجنّبها تبعات الدخول في دوائر العنف والعنف المضادّ في علاقة بالنظام الحاكم. ومعلوم أنّ الاحتجاج العنيف قد استنزف كثيرا من الحركات الإسلامية، ووفّر حجّة لأكثر من نظام عربي لقمعها وتعقّب أنصارها. لذلك بدت الحركة في حمأة الأزمة ميّالةً إلى التشبّث بخيار السلمية، حفاظا على كيْنونتها، وعلى السلم الاجتماعي، وخدمة للصالح العام.

انشغلت "النهضة" في فترة الحكم الشمولي بمواجهة الدولة القامعة، وانصرفت بعد الثورة إلى البحث لها عن موطئ قدم في منظومة الحكم

في مستوى المراجعة النقدية، تخفّفت حركة النهضة نسبيا خلال عشرية الانتقال الديمقراطي من عقل "الفرقة الناجية"، وشعار"الإسلام في خطر ما دامت النهضة في خطر"، ومن هواجس التوجّس من الآخر السياسي، لكنّ أداءها التنظيمي، والحُكمي، والتنظيري ما زال في حاجةٍ إلى مزيد التطوير والمراجعة. فمن الناحية التنظيمية، لم تخرج الحركة من جبّة الحزب المشيخي الذي يدين بالولاء للشيخ/ الزعيم ويحتكم لقراراته، ولم تدفع شخصيات شابّة إلى مراكز القيادة واتخاذ القرار في صلب هياكلها، وظلّت رهينة وجوهٍ قيادية تقليدية. كما أنّ تجربتها في الحكم، رغم حداثتها ومحدوديتها، لم توضع بعد تحت مجهر النقد الذاتي الصريح، الجريء، فقد احترمت الحركة، بحسب مراقبين في الداخل والخارج، خلال مدّة حكمها الحريات العامّة والخاصّة، وحكمت مع مخالفين لها، ولم تسعَ إلى أسلمة الدولة وأخونة المجتمع، وساهمت في صياغة دستورٍ تقدّمي توافقي، وتأمين تداولٍ سلميٍّ على السلطة، وبذلت، بالتعاون مع فاعلين سياسيين ومكونات المجتمع المدني، جهدا معتبرا لمأسسة الانتقال الديمقراطي. لكنّ ذلك لا يمنع من أنّها طبّعت نسبيا مع النظام القديم، ولم تكن جريئة في فتح ملفّات الفساد، وإجراء المساءلة والمحاسبة، وتطبيق مخرجات العدالة الانتقالية، وإنصاف ضحايا الدولة القامعة. ورفضت تمرير قانون تحصين الثورة، وتعاملت مع خصوم الديمقراطية ودعاة الشعبوية، والحنين للدكتاتورية بمنطق الاستسهال والنيات الحسنة. بل أيّدت تنصيب بعض وجوه النظام القديم في مناصب حيوية. ومرّرت مع حليفها في البرلمان (نداء تونس) قانون المصالحة الاقتصادية بشأن أشخاصٍ حامت حولهم شبهات فساد إداري ومالي. ولم تنجح في توفير حزام حزبي داعم لتمرير حكومة الحبيب الجملي، وكلّفها ذلك الانخراط في دوّامة "حكومة الرئيس"، وعقد تحالفاتٍ غير مدروسة وغير واقعية. كما لم تبلور خلال فترة حكمها خططا لاستباق المخاطر، وحلّ الأزمات، وتفادي الصدمات (الإرهاب، كورونا، الضائقة الاقتصادية)، ولم تحوّل المنجز الديمقراطي إلى دولة رفاه ونهوض تنموي، شامل، مستدام.

أمّا في خصوص الجهد التنظيمي / التأصيلي لمقولات الحركة وشعاراتها الكبرى، فالملاحظ أنّ "النهضة" انشغلت خلال فترة الحكم الشمولي بمواجهة الدولة القامعة، وانصرفت بعد الثورة إلى البحث لها عن موطئ قدم في منظومة الحكم. ولم تطوّر، في الأثناء، رصيدها النظري. ولم تطوّر أداءها الإعلامي والاتصالي بالقدر الكافي، ولم تنفتح على النخب الوازنة والكوادر الأكاديمية الفاعلة، وبدت ميّالةً إلى استقراب من أعلنوا الولاء للحركة، ولم تضبط استراتيجياتٍ ناجعة لفهم ديناميات الواقع وإحداثياته، واستشراف احتمالات المستقبل ومفاجآته. لكن ذلك لا يمنع من أنّ حركة النهضة روّجت، خلال العشرية المنقضية، مقولة فصل الدعوي عن السياسي. وهو تطوّر مهمّ في سيرتها، لم يتمّ التأصيل له نظريا وعمليا بالقدر الكافي. كما رفعت شعار "الإسلام الديمقراطي"، وهو شعار جاذب، وفارق في صيرورة الإسلام السياسي، غير أنّ ملامحه التفصيلية والتأصيلية ما انفكّت غير واضحة.

ختاما، تظهر الأحزاب، وتمتدّ في الناس، وتنمو وتكبر بازدياد أنصارها وتجدّد أفكارها وقياداتها، وتنوّع مناويلها البرامجية في التعاطي مع الشأن العام، وقدرتها على التكيف مع مستجدّات اللحظة التاريخية التي تنتمي إليها. وقد تتراجع شعبيّتها ويأفل نجمُها في حال تمترست خلف مسلّماتها العقائدية وقياداتها التقليدية، ولم تستوعب تحوّلات الزمن السياسي في الداخل والخارج. والثابت أنّ حركة النهضة بعد الأربعين في حاجةٍ إلى مقاربات تجديدية، ووقفات تأملية/ عقلانية، ومراجعاتٍ نقدية ذاتية وموضوعية عميقة ضمانا للاستمرار وحفاظا على الأنصار في هذا الزمن السياسي الصعب. وإن لم يكن، فإنّها تواجه احتمال الأفول، لا محالة.

511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.