حرب 1967 .. هذا الكتاب
ثمّة تضخّمٌ غزيرٌ في الكتابات والمؤلفات والنقاشات التي انشغلت ثقافيا وحضاريا، ولنقل أيضا اجتماعيا، ومنظوماتٍ سياسية، وكذا في الكتابات الأيديولوجية، في ما يتعلق بحرب الأيام الستة في يونيو/ حزيران 1967، فيما هي شحيحةٌ الكتاباتُ والمؤلفاتُ العلمية المحضة، والتي تنشغل بالإجابة عن الأسئلة المتعلقة تحديدا بالهزيمة العسكرية نفسِها، كيف حدثت، ومجريات ما وقع على جبهات القتال، المصرية والسورية والأردنية، ولماذا، وما إذا كان في الوسع تفادي الهزيمة. وكذلك بشأن القرار السياسي في تلك الغضون، ومدى اتّساقه، أو عدم اتساقه، مع الحال العسكري نفسه. باختصار، كيف حدثت الهزيمة المعلومة قبل 54 عاما، على الأرض بالضبط؟ للإحاطة بصورةٍ مدقّقة، وعلميةٍ إلى حد بعيد، في هذا الشأن، وما يتّصل به بشأن صناعة القرار، في البلدان العربية الثلاث التي خاضت الحرب، وكذا في إسرائيل المنتصرة، ثمّة ضرورة لقراءة كتاب "حرب حزيران/ يونيو 1967 .. مسارات الحرب وتداعياتها" (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، 2020)، والذي يضم أعمال مؤتمر أكاديمي نظّمه المركز العربي في الدوحة في مايو/ أيار 2017، واشتمل على 12 بحثا، في خمسة أقسام في 376 صفحة (تحرير أحمد قاسم حسين).
ومن أسباب حماسٍ ظاهرٍ هنا لهذا الكتاب، الذي يستحق احتفاءً واجبا به، محاولة الباحثين الذين أنجزوا أوراقه تقديم مشهد الأيام الستة تلك، وما يتّصل بها قبيْلها وبعيْدها، بتدقيق التفاصيل الميدانية والسياسية، مع ما استدعاه هذا الجهد من إحالاتٍ إلى شؤونٍ أخرى تُغني الإضاءة العامة المتوخّاة. ويُغبَط القارئون المتعجّلون (هل نحن أصحاب التعاليق الصحافية منهم؟) للكتاب، على "الملخص التنفيذي" الذي أنجزه أحمد قاسم حسين، واستُهلّ به الكتاب، وأوجز أبرز (وليس أهم) النقاط التي جاءت عليها البحوث. وأول ما يُخْطرك به الصديق أحمد هنا أن ثمّة وضعا صعبا يواجهه المؤرّخ العربي لحرب 1967، وهو غياب الأرشيف العربي لها، وغياب رواياتٍ رسميةٍ عربيةٍ عنها. ثم تُخبرك محاضرة عزمي بشارة الافتتاحية للمؤتمر أن مئات الدراسات صدرت في إسرائيل والغرب في دراسة الحرب وتحليل أسبابها ونتائجها، وفي توثيقها، وعن كل معركةٍ فيها، فضلا عن كتب السير الكثيرة التي كتبها القادة، والفاعلون في وزارتي الخارجية والدفاع، وحتى الضباط، فيما لم يجر التطرّق، على نحو علمي، إلى أخطر إخفاق سياسي وعسكري عربي في التاريخ العربي الحديث. ويلحّ بشارة على أن يونيو/ حزيران 1967، وليس مايو/ أيار 1948، هو تاريخ نشوء إسرائيل الحقيقي (أو تثبيته على الأقل)، فقد كانت إسرائيل قبل هذه الحرب مشروعا غير مستقر، ثم صارت بعدها مشروعا مضمونا.
وتاليا، في بحثه المعمّق، يوضح مروان قبلان أنه على الرغم من مرور أكثر من خمسة عقود على حرب حزيران، إلا أن رواية سقوط الجولان فيها ما زالت محل جدل ونقاش وبحث، وما زالت ظروف الحدث حاضرةً في نقاشات السوريين وحواراتهم. وبقدر ما جاء جهد قبلان في مبحثه المهم مثيرا عندما يتقصّى حدث الجولان ذاك، فإن ورقة غازي ربابعة عن سير المعارك على الجبهة الأردنية جاءت كذلك، ليس فقط فيما يتّصل بالإتيان على الخطط العسكرية الموضوعة، وعلى القدرات العسكرية الأردنية، والتدريب الجيد الذي كان عليه الجيش الأردني، وإنما أيضا بالإضاءة على الظرف الجيوسياسي الذي كان عليه الأردن في الأثناء. أما عمر عاشور، ففي تتبّعه التفصيلي الأداء القتالي على الجبهة المصرية انتهى إلى أن الهزيمة على تلك الجبهة لم تكن حتمية، بالنظر إلى قدرات الجيش المصري، وإمكاناته الهائلة، وقوته النارية والعددية، غير أن مفاعيل أخرى، يبحث فيها عاشور، أدّت إلى ما نعلم.
ليس من الموضوعية (ولا المهنية؟) أن يُكتفى هنا بانتقاء محاضرة بشارة وأوراق قبلان وربابعة وعاشور، للتأشير الموجز هنا (كلّ إيجازٍ مخلّ) إليها من بين الدراسات الاثنتي عشرة في الكتاب، ودفعا لاتهام (محقٍّ ربما) كهذا، لا يمكن التهوين من القيمة العلمية في أوراق: عبد الوهاب الأفندي، بلال محمد شلش، ياسر جزائرلي، محمود محارب، معين الطاهر، محمد السمهوري، بلال محمد شلش، أسامة أبو أرشيد، عبد الحميد صيام. وقد طافت أبحاثهم على صناعة القرار الإسرائيلي في الحرب، وعلى أوضاع فلسطينية عامة، وأثر الحرب في المقاومة الفلسطينية، وأبعاد دولية كانت حاضرة في غضون المعارك، وما كانته هذه الحرب في الوثائق الأميركية .. أما التعرّف جيدا على هذا كله، وغيره، فيحتاج قراءةَ هذا الكتاب، المدعو هنا إلى أن ينتبه إليه الجميع، باحثون ومؤرّخون وإعلاميون .. إلخ.