حرب غزّة وتحدّيات السياسة الأردنية
باحث فلسطينيّ مُتخصِّص في الشؤون العربية والإقليمية، له كتاب عن "السياسة السعودية تجاه فلسطين والعراق"، صادر عن مركز "الجزيرة" للدراسات، وعدد من الدراسات المحكمة المنشورة في الدوريات العلمية.
يثير إعلان وزارة الخارجية وشؤون المغتربين الأردنيين (11/7/2024) إنشاء مكتب اتصال لحلف شمال الأطلسي (الناتو) في الأردن، تساؤلات عدة بشأن دلالات هذه الخطوة بالنسبة لخيارات السياسة الخارجية، وانعكاساتها المحتملة على السياسات الداخلية، لا سيّما في ظلّ اتساع الفجوة بين الموقف الرسمي الأردني من حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزّة، وموقف الشارع المتضامن مع أهل غزّة.
وفي إطار تحليل السياقات الدولية والإقليمية والعربية المحيطة بفتح مكتب لحلف الناتو في الأردن، وما تفرضه من تحدّيات خارجية وداخلية، ثمّة أربع ملاحظات. أولاها تتعلّق بانعكاسات ثلاثة متغيّرات دولية على أدوار الفاعلين الدوليين والإقليميين في إقليم الشرق الأوسط (نتائج الانتخابات الأميركية المُرتقَبة، وتطورات الحرب الروسية على أوكرانيا، وتصاعد النفوذ العالمي للصين)، فالمتوقّع أن تُؤدّي مُحصلة هذه المُتغيّرات إلى تضييق هامش حركة الدبلوماسية الأردنية (المحدود أصلاً)، ودفعها إلى الاكتفاء بالأبعاد الإغاثية والإنسانية في دعم غزّة، وبالتالي تجريدها تماماً من أي أبعاد سياسية أو قانونية يمكن أن تساهم في دعم قضية فلسطين.
عودة ترامب إلى البيت الأبيض قد تنطوي على مخاطر أكبر بالنسبة لتقليص الدور الأردني، خصوصاً إذا جدّد ترامب طرح "صفقة القرن"
وعلى الرغم من أنّ احتمال عودة الرئيس السابق، دونالد ترامب، إلى البيت الأبيض قد ينطوي على مخاطر أكبر بالنسبة لتقليص الدور الأردني، خصوصاً إذا جدّد ترامب وفريقه طرح "صفقة القرن"، بعد أن جرى تنفيذ قسم مُعتبَر منها بالفعل في الأراضي الفلسطينية (سواء في الضفّة الغربية، أو القدس، أو قطاع غزّة، عبر الحروب والتجويع والحصار... إلخ)، فإنّ احتفاظ الحزب الديمقراطي الأميركي بمقاليد السلطة، قد لا يكون أمراً إيجابياً بالضرورة للأردن، في ضوء مُحصّلة سياسة إدارة جو بايدن تجاه حرب غزّة خصوصاً، وقضية فلسطين عموماً، التي لم تُراعِ مصالح حلفائها من الدول العربية (ربّما باستثناء الإمارات، وبدرجة أقلّ السعودية)، إذ ركّزت واشنطن جُلّ جهودها في تمكين الحليف الإسرائيلي من تنفيذ أهدافه من الحرب، على الرغم من حدوث تغيّر طفيف في الخطاب الدبلوماسي الأميركي، على نحو ما ورد على لسان الرئيس بايدن، ونائبته كامالا هاريس، في مناسبات عدّة.
تتعلق الملاحظة الثانية بتصاعد التحدّيات الإقليمية أمام عمّان على نحو سيُؤثّر في التوازنات الداخلية والخارجية، بسبب أربعة متغيّرات على الأقلّ: أولاً تحسّن موقع العامل الفلسطيني التحرّري، بسبب صمود فصائل المقاومة في غزّة، خصوصاً حركتي حماس والجهاد الإسلامي، ما يعني حكماً زيادة قدرة الحركتَين في الضغط على المعادلات العربية والإقليمية، في المدى المنظور، باتجاه وقف تجاهل قضية فلسطين، وكذا التأثير في علانية التطبيع مع إسرائيل، ودفعه إلى مسارات أكثر سرّية، مخافة استفزاز الشارع العربي، المُتضامن في معظمه مع معاناة الغزّيين. ثانياً، تبعات التطبيع الرسمي الأردني مع إسرائيل، واستمرار التداعيات السلبية لاتفاقية وادي عربة (26/10/1994)، على الرغم من توظيف إسرائيل لها على مدار ثلاثة عقود، خدمة لمصالحها، وتنصّلاً من أغلب التزاماتها القانونية، سواء فيما يتعلق بحقوق الأردن المائية، أو مشروعات التعاون المشتركة في الطاقة والتجارة والاستثمار، أو مسألة "الوصاية الهاشمية" على المُقدّسات الإسلامية في القدس المُحتلّة.
واستطراداً في التحليل، يبدو واضحاً تعقّد موقف الأردن الاستراتيجي بعد حرب غزّة، واستحالة تجنّب تداعيات الاستقطاب الإقليمي وزيادة الضغوط الإقليمية على البلاد، من كلّ حدب وصوب، نتيجة تصاعد الصراع الإيراني الإسرائيلي، سواء المباشر، أم عبر الوكلاء الإقليميين (حزب الله في لبنان وأنصار الله في اليمن والفصائل العراقية)، إذ تعاون الأردن مع القيادة المركزية الأميركية (CENTCOM)، في صدّ الهجوم الصاروخي الإيراني على إسرائيل (14/4/2024). ثالثاً، ثمّة في المقابل تردّد واضح لدى عمّان في الانفتاح على إيران وتركيا، أقلّه لموازنة التهديدات الإسرائيلية، وتوسيع شبكة التحالفات الإقليمية للأردن، على نحو يُعزّز أمن البلاد واستقرارها. رابعاً، نجاح الحوثيين (بمساعدة إيرانية) في التأثير في توازنات البحر الأحمر وحركة الملاحة الدولية فيه، لا سيّما فرض الحصار على تجارة إسرائيل وحركة الاستيراد والتصدير فيها، وصولاً إلى استهداف الحوثيين تلّ أبيب بمُسيّرة يافا (19/7/2024)، ما يُؤكّد ضعف الردع الإسرائيلي بعد عملية طوفان الأقصى، وربما يدشّن مرحلة جديدة من الحرب؛ حيث ستضطرّ إسرائيل إلى توزيع مواردها القتالية على جبهات مُتعدّدة (غزّة ولبنان وسورية واليمن، وربّما العراق وإيران لاحقاً).
تتعلق الملاحظة الثالثة بتصاعد الضغوط العربية على الأردن، مع احتمال بروز أدوار مصر والإمارات والسعودية في مرحلة ترتيبات "اليوم التالي" في قطاع غزّة. وإذ تفتقد عمّان الوزن الإقليمي والديمغرافي والاستراتيجي مقارنة بالإمكانات المصرية الوفيرة، فإنّها لا تملك فوائض مالية (مقارنة بأبوظبي والرياض) تسمح لها بأي حضور مُؤثّر في قطاع غزّة بعد انتهاء الحرب، ناهيك عن تداعيات السياسة الإسرائيلية تجاه غزّة، التي ستزداد وطأتها الكارثية على الأردن عندما ينتقل التصعيد إلى جبهة الضفّة الغربية والقدس المُحتلّة، ما يعني وضعاً غير مسبوق في صعوبته بالنسبة لعمّان. وإلى ذلك، يلعب ضعف المواقف الرسمية العربية من حرب غزّة دوراً ضاغطاً على الأردن، ما يُجرّده من أي دعم عربي مُحتمَل لمواجهة مخطّطات التهجير وتصاعد الاستيطان والانتهاكات الإسرائيلية في الضفّة الغربية والقدس، ما يجعل تكتيل الجبهة الداخلية الأردنية وتعزيز تماسكها ضرورة استراتيجية لا تقبل التأجيل.
تتعلق الملاحظة الرابعة بتداعيات ضعف الموقف الرسمي الأردني من حرب غزّة، واكتفائه بمقاربة لها خمس ركائز؛ سياسة "الحد الأدنى من الأفعال"؛ ودور "التحذير" من خطورة السياسة الإسرائيلية، لا سيّما في مسألة التهجير؛ وتكثيف الزيارات والجولات الخارجية لكبار المسؤولين الأردنيين؛ وتفعيل الأداة الدبلوماسية من دون استراتيجية أو حتّى سياسة خارجية متكاملة الأدوات؛ وأخيراً، رفع "السقف الخطابي الدبلوماسي"، إذ يبدو واضحاً السماح الأميركي بهذا الهامش في انتقاد سياسات اليمين الإسرائيلي المُتطرّف، إدراكاً من واشنطن لحاجة عمّان الماسّة إلى تهدئة غضب الشارع الأردني، خشية انفلاته في اتجاهات غير مرغوبة في ظلّ مرحلة إقليمية/دولية انتقالية مضطربة، حُبلى بالسيولة والمُتغيّرات والمُستجدّات والمُفاجآت.
واستطراداً، يبدو أنّ اتساع الفجوة بين الموقف الرسمي الأردني وموقف الشارع الأردني المُؤيّد لغزّة وللمقاومة الفلسطينية، إلى حدّ أيقنة رموزها، يطرح تحدّياً آخر يتعلّق بتفسير استنكاف عمّان حتّى اللحظة، عن الانفتاح على كلّ القوى الفلسطينية، بما في ذلك حركتا حماس والجهاد الإسلامي، وهذا يُؤكّد حقيقتين؛ إحداهما عدم إمكانية القفز على تداعيات الصمود الفلسطيني في حرب غزّة، وترسخ الهُويّة الفلسطينية، وزيادة اعترافات الدول الأوروبية بدولة فلسطين وعولمة قضية فلسطين في تظاهرات طلاب الجامعات الأميركية والأوروبية، بالإضافة إلى حراك الشارع في عواصم عالمية عديدة، والأخرى عدم ملائمة العودة لأفكار تشكيل دولة كونفيدرالية من الأردن وفلسطين، ناهيك عن مطالبة بعضهم باعتراف القمّة العربية بالضفّة الغربية جزءاً من الأردن، مع انسحاب إسرائيل الكامل منها، وتقديم تعويضات مالية للأردن (على نحو ما طرحه جواد العناني؛ "مستقبل العلاقات الأردنية الفلسطينية"، "العربي الجديد"، 25/7/2024).
وإزاء تصاعد الضغوط الاقتصادية والاجتماعية على الأردن، وخسارته 845 مليون دولار من عائداته السياحية بعد "7 أكتوبر" (زيد الدبيسية، "العدوان على غزة يفقد الأردن 845 مليون دولار من السياحة"، "العربي الجديد"، 28/6/2024)، فلا مناص من تغيير في جوهر الاستراتيجية الأردنية، وتقليص الرهان على جدوى إعادة الاندماج في الترتيبات الأميركية لمستقبل إقليم الشرق الأوسط.
فتح مكتب لحلف الناتو في الأردن يعكس ضيق الخيارات الاستراتيجية أمام الأردن في مواجهة تصاعد العدوانية الإسرائيلية
وعلى الرغم من أنّ خطوة فتح مكتب للناتو في الأردن لا تنطوي في الحقيقة على تغيير في توجّه السياسة الخارجية الأردنية (Foreign Policy Orientation)، فإنّها لا تمثّل ما يراه بعضهم علامة فارقة في شراكة الأردن والناتو، أو القول إنّها "شهادة عالمية بقدرات الأردن ودوره المحوري وأهمية قراءته للمنطقة"، بقدر ما تعكس الخطوة ضيق الخيارات الاستراتيجية أمام الأردن في مواجهة تصاعد العدوانية الإسرائيلية، بسبب تصاعد نفوذ تيّار اليمين الصهيوني الديني، ووضوح مخطّطاته الاستيطانية في الضفّة الغربية والقدس، ما يعني في المُحصّلة استحالة استمرار الأردن في سياسة إمساك العصا من المنتصف، وزيادة انكشافه على التطوّرات في غزّة والضفّة الغربية، وكذا في سورية والعراق ولبنان، مع احتمال عودة نشاط الجماعات الراديكالية المُتطرّفة في مجمل إقليم الشرق الأوسط، بسبب فظاعات حرب الإبادة الإسرائيلية على غزّة، والصمت الدولي والعربي غير البليغ.
وإزاء كمّاشة الضغوط الدولية والإقليمية والعربية والداخلية، التي تكاد تعصر الأردن، فلا مناص من إعادة رصّ البناء الداخلي، ورفع سقف الحرّيات، والتوقّف عن سياسة تأزيم المشهد الداخلي، وتعديل قانون الجرائم الإلكترونية، لا سيّما ما يتعلّق بتقييد الحرّيات والاعتقالات للصحافيين والناشطين، التي استهدفت مُنتقدي استمرار التطبيع مع إسرائيل والمُتضامنين (وأبرزهم الكاتب الصحافي الساخر أحمد حسن الزعبي)، توطئة لكي تصبّ الانتخابات البرلمانية في 10 سبتمبر/ أيلول المقبل، في خانة إعادة صياغة صلابة الجبهة الداخلية، وتفويت الفرص على المُتربّصين بأمن الأردن واستقراره، الذي دخل بعد حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزّة، في مرحلة غير مسبوقة من حيث خطورتها، مع تصاعد احتمالات انزلاق الأردن والمنطقة العربية برمّتها، نحو حالة من الفوضى الشاملة، التي تبدو هدفاً استراتيجياً إسرائيلياً أصيلاً.
باحث فلسطينيّ مُتخصِّص في الشؤون العربية والإقليمية، له كتاب عن "السياسة السعودية تجاه فلسطين والعراق"، صادر عن مركز "الجزيرة" للدراسات، وعدد من الدراسات المحكمة المنشورة في الدوريات العلمية.