حرب دينية في القدس؟
تكرّرت، أخيرا، وعلى لسان أكثر من مسؤول فلسطيني وعربي، تسمية "الحرب الدينية" في وصف ما سيؤول إليه الصراع في فلسطين، والقدس تحديدًا، إذا لم تتوقف الاعتداءات الإسرائيلية على المسجد الأقصى. ويتطابق صف الصراع أو مستقبله في فلسطين، وفق هذه الرؤية، من فاعليات فلسطينية (السلطة والفصائل والقوائم العربية في الكنيست)، وبعض العرب (قطر والأردن وحزب الله)، مع الرؤية الشعبية الفلسطينية والعربية المتوارثة منذ عام 1948، والتي تأصلت على مدى سنوات الصراع الـ74 الماضية، فالعامة من الجدّات والآباء الذين عايشوا النكبة ومن ثم نكسة 1967، لم يستخدموا يومًا مصطلح "الصهاينة" و"الكيان الصهيوني" كما فعلت النخب المثقفة، إذ كان الطرف الآخر في الصراع لديهم "اليهود ودولة اليهود"، وعُرّف الصراع في فلسطين وحولها منهم أنه جزء من الصراع الذي بشّرَ به القرآن، وكذا الأحاديث النبوية؛ صراعٌ مع اليهود، واعتبر ذلك من العلامات الصغرى لليوم الآخر، بل وعُرف تجميع الحركة الصهيونية اليهود في فلسطين أنه مقدمة "الوعد الآخر".
من بين أكثر الزعامات الفلسطينية والعربية إشارة إلى البعد الديني في الصراع، كان الراحل ياسر عرفات، فقد ضمّن، في خطاباته، ابتداءً من سبعينيات القرن الماضي آيات القرآن والأحاديث النبوية الدالّة على جوهر الصراع، وقد وصفه، بشكل غير مباشر، على أنه ديني في عدة مناسبات رسمية وجماهيرية. ووفق هذه الرؤية، استدعى أبو عمّار مُقاتلين متطوعين من دول إسلامية، أبرزها باكستان وبنغلاديش. وبعد اتفاق أوسلو (1993)، خاطب حشدا من المُصلين في أحد مساجد جنوب أفريقيا بالقول: "القدس لن تتحرّر بالاتفاقيات، القدس بحاجة إلى جهاد" (يقصد جهاد من المسلمين). وهو صاحب شعار "ع القدس رايحين شهداء بالملايين"، الذي ما زال يردّده الشباب الفلسطيني في شوارع القدس وباحات الأقصى، فهل الصراع ذو بعد ديني، أم أنه مزيجٌ مُعقد متعدد الأبعاد؟
في العودة إلى التسريبات الاستعمارية في بداية القرن الماضي، تبدو فكرة الصهيونية العملية مسيحية بروتستانتية، حيث بدأت من دعوة الكاهن الألماني مارتن لوثر (1483-1546)، في القرن السادس عشر في كتابه "المسيح ولد يهوديًا"، إلى نقل اليهود من دول أوروبا إلى الأرض المقدسة فلسطين، والتي رفضها اليهود بدايةً، لكن الساسة الإنكليز تبنّوها في ما بعد عُقب اعتناق هنري الثامن (1491-1547)، المذهب البروتستانتي في القرن نفسه. وتعجُّ الأدبيات السياسية الإنكليزية التي اتخذتها عشرات الكتب في الغرب مراجع، بهذا الموضوع، منها كتاب القس ستيفن سايزر "المسيحيون الصهاينة: إنجيليون - توراتيون متطرّفون: خارطة طريق إلى معركة هرمجدون"، وكتاب بول ميركلي "الصهيونية المسيحية: 1891-1948".
هناك يهود يعتبرون قيام دولة يهودية والمساس بالأقصى عارًا على اليهودية ومناقضًا لتعاليم الرب
وثمّة مؤلفات عربية عديدة في ذلك، أبرزها مؤلفات محمد السماك، تفيد جميعها بأن المسيحية الصهيونية سبّاقة على الصهيونية اليهودية، وعندما نقول ذلك، فالمؤكد أنها (المسيحية الصهيونية) سابقة على الصهيونية اليهودية بأربعة قرون. لكن ذلك لا يعني أننا نتجاهل أيضًا أن الصهيونية الدينية اليهودية قديمة، ولا يمكن رصد بداياتها الأولى، فهناك من يعيدها إلى ما بعد تدمير الهيكل الثاني عام 70 ميلادية، وهذا مشكوك فيه، وهناك من يعيدها إلى حركات يهودية خزرية أشكنازية بدأت في صربيا وأوديسا الأوكرانية مع يهودا الكلعي (1798-1878)، وليو بنسكر (1821-1891)، وغيرهما في نهايات القرن التاسع عشر. وهذا يبدو منطقيا وموثّقا تاريخيًا، لكن تلك الحركات ارتبطت بظهور المسيح اليهودي أولًا، لا إنشاء الدولة اليهودية تهيئةً لظهور المسيح، وهذه فكرة بروتستانتية صاحبها الأول الكاهن المسيحي مارتن لوثر.
من كتاب مارتن لوثر ودعوته إلى ترحيل اليهود إلى فلسطين بوصفها مقدمةً لظهور المسيح، إلى الصهيونية المسيحية المعاصرة مع حليفتها الصهيونية اليهودية العملية المتمثلة بصهاينة الكيان الغاصب وامتداداتهم الأوروبية والأميركية، يظل الأساس الذي أقيم عليه الكيان الصهيوني دينيًا، حيث نجح الصهاينة، من الطرفين البروتستانتي واليهودي، في تلفيق تفاسير وتعاليم مستمدّة من نبوءات تلمودية، وأخرى من سفر يوحنا اللاهوتي، تقود إلى العمل سويًا لاغتصاب أرض العرب تحضيرًا للمعركة الكبرى "هرمجدون". وفي المقابل، أخرجَ العرب والمسلمون، ومع الغزو الإنكلو - صهيوني، من كتب تراثهم ومن الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، ما ينصّ على النقيض من التفسيرات اليهودية والمسيحية الصهيونية، إلا أنه يتوافق معها، من حيث أن معركة ما فاصلة ستجري بينهما، ويكون النصر فيها للمسلمين. وذلك يطرح سؤالًا، أو لنقل استفسارًا، في أنّ التلفيق الصهيوني لا يُعبّر عن اليهودية الحقّة، إذ إن هناك يهودا يعتبرون قيام دولة يهودية والمساس بالأقصى عارًا على اليهودية ومناقضًا لتعاليم الرب، والحديث هنا حول جماعة ناطوري كارتا المحدودة العدد. وعليه، هل الحركة الصهيونية نتاج بروتستانتي لا علاقة له باليهودية؟
في العودة إلى أدبيات جماعة ناطوري كارتا، ليس هناك ما يشير إلى أنها تنفي حق اليهود في إقامة دولة لهم في فلسطين، كما هو شائع، بل إن اختلافهم مع الصهاينة العملياتيين الهرتزليين (نسبةً إلى تيودور هرتزل) اعتقادهم فقط أن ذلك الفعل يجب أن يحدث بأيد إلهية لا بشرية، أي أن الخلاف بينهما في أيهما يجب أن يظهر أولًا؛ الإله على جبل صهيون أم دولة صهيون تمهيدا لمجيء الإله؟ وهذا الخلاف على الأسبقية لا يعني أن جماعة ناطوري كارتا ليسوا صهاينة، بل على العكس هم كذلك، لكن الخلاف بينهم وبين الهرتزليين في أيهما يسبق الآخر؛ الفعل البشري أم الإلهي؟ لكنهما يلتقيان، في النهاية، من حيث الهدف الاستراتيجي، وهو أن هذا الفعل سيجري على حساب المسلمين وأرضهم، الذين هم عرب فلسطين وعرب المشرق عامةً.
يرى الفلسطيني الصراع من زاوية واحدة، تتكامل فيها أبعاد نضاله وطنيًا وقوميًا ودينيًا. الهدف لدى الفلسطيني، بالدرجة الأولى، هو تحرير وطنه
وإذا كان الأمر كذلك، وهو جليٌ مثل عين الشمس، لِمَ تُصرّ معظم الحركات الفلسطينية، وبعض الأحزاب العربية، على توصيف الصراع على أنه عربي - صهيوني، أو فلسطيني - صهيوني، وليس دينيًا يهوديًا مسيحيًا بروتستانتيًا مع المسلمين؟ ربما يعود ذلك إلى وثيقة كامبل بنرمان (1905-1907)، التي جاءت ختامًا لمؤتمر الدول الاستعمارية في ذلك الوقت (بريطانيا وفرنسا وبلجيكا وإسبانيا وهولندا)، وحدّدت الهدف من إنشاء دولة الصهاينة، وهو منع وحدة العرب وتطوّرهم؛ بصيغة أخرى "إبقاء شعوب هذه المنطقة مفككةً جاهلةً متأخرةً". وقد صَنفت الوثيقة الختامية للمؤتمر الدول العربية والإسلامية ضمن الفئة الثالثة، وفيها أنها "دول لا تقع ضمن الحضارة الغربية المسيحية، ويوجد تصادم حضاري معها، وتُشكّل تهديدًا لتفوقها، والواجب تجاه تلك الدول حرمانها من الدعم، ومن اكتساب العلوم والمعارف التقنية، وعدم دعمها في هذا المجال، ومحاربة أي اتجاه من هذه الدول إلى امتلاك العلوم التقنية".
إذًا، ومن هذه المنطلقات، اتخذت الأحزاب القومية العربية تعريفها الصراع أنه بين قوى الاستعمار الغربي، ورأس جسره دولة الصهاينة في فلسطين، والأمة العربية عامةً من جهةٍ أخرى. لكن لو دققنا في الوثيقة، لوجدنا أن العداء للعرب وزرع كيان الصهاينة بينهم، يعود، بالدرجة الأولى، لكونهم مسلمين أصحاب حضارة مختلفة، وليس بسبب العرق أو اللغة فقط. تفضح تلك الوثيقة الدولية الاستعمارية وغيرها الخشية الغربية من وحدة العرب، والعداء الكامن لكل ما هو عربي وإسلامي، وتُظهر بوضوح العامل الديني بوصفه سببًا لوحدة توجّه هذه الدول الغربية في إنشاء قلعة "صليبية" مُتقدّمة تتصدّى لوحدة العرب وتطورهم.
السؤال الآخر: هل يتناقض الصراع الوطني الفلسطيني التحرّري مع البعد الديني الإسلامي في مواجهة الصهيونية اليهودية و"الصليبية الجديدة"؟ وباستعراض نشأة الكيان وصُنّاعه وحُماته، نجد الجواب، وباختصار، أن الفلسطيني يرى الصراع من زاوية واحدة، تتكامل فيها أبعاد نضاله وطنيًا وقوميًا ودينيًا، لكن كون الأرض المحتلة هي وطن الفلسطينيين، فإن الهدف لدى الفلسطيني، بالدرجة الأولى، هو تحرير وطنه، بغض النظر عمّن يحتله، وما ينتمي إليه من عقائد دينية. إذًا التعريف الفلسطيني شامل ومحدّد في آن.
تُفيد الأدبيات الغربية حول استعمار فلسطين بأن جوهر الصراع ديني - حضاري
عودًا على بدء، هل يجرّ الصهاينة المنطقة إلى حرب دينية، أم أنها منذ البدء كانت ولا تزال دينية، إذ جرى استعمار فلسطين بدوافع دينية توراتية وتلمودية وإنجيلية (وفق التفسير الغربي لسفر رؤيا يوحنا اللاهوتي وحرب الهرمجدون)؟ تُفيد الأدبيات الغربية حول استعمار فلسطين بأن جوهر الصراع ديني - حضاري، وأن التعاطف الغربي الرسمي مع دولة الصهاينة مردّه دوافع دينية حضارية. وبناء على هذه الخلفية، لم تكن الدوافع الدينية الإنجيلية تقتصر على آرثر جيمس بلفور عام 1917، ولا على ساسة الغرب في بدايات القرن الماضي، بل ما زالت هي نفسها وفق ساسة الغرب اليوم أيضًا.
على سبيل المثال، كتب رئيس الوزراء الإسباني الأسبق خوسيه ماريا أزنار، وهو كاثوليكي بالمناسبة، مقالًا في صحيفة التايمز عام 2010، عنوانه "ادعموا إسرائيل لأنها إذا انهارت انهار الغرب"، خلص إلى أن "إسرائيل جزء أساسي من الغرب وما هو عليه بفضل جذوره اليهودية/ المسيحية، ففي حال جرى نزع العنصر اليهودي من تلك الجذور وفقدان إسرائيل، فسنضيع نحن أيضًا، وسيكون مصيرنا متشابكًا، وبشكلٍ لا ينفصم، أحببنا ذلك أم لا". وجاء خطاب نائب الرئيس الأميركي السابق مايك بنس، المعروف بصهيونيته المسيحية، في الكنيست الصهيوني عام 2018، ليعلن أن الصراع في فلسطين ديني، وأن الروابط التي تجمع المسيحيين الصهاينة الذين يُمثّلهم الحزب الجمهوري الأميركي مع دولة الصهاينة في فلسطين المحتلة تجعلُ مصير الولايات المتحدة مرتبطا بمصير دولة الصهاينة (إسرائيل). وكانت قيادات من الحزب الديمقراطي قد ذكرت الأسباب نفسها، في مقدمتها الرئيس الأسبق بيل كلينتون.
التسوية السلمية الوحيدة، وفق مندوب دولة الصهاينة في الأمم المتحدة داني دانون، تتلخص في أن يستسلم الفلسطينيون، وأن يتخلوا عن المقاومة ويقبلوا الهزيمة
النظرة الغربية للصراع في فلسطين، وفق هذه الرؤية، التي يترافق فيها الديني مع الاستراتيجي، هي التي تجعل الصراع ممتدًا من دون نهاية، ولا يمكن تحقيق أي تسوية سلمية له، فالتسوية السلمية الوحيدة، وفق مندوب دولة الصهاينة في الأمم المتحدة داني دانون، تتلخص في أن يستسلم الفلسطينيون، وأن يتخلوا عن المقاومة ويقبلوا الهزيمة. وعليه، وبعد هذا التوصيف لأبعاد الصراع، ماذا يعني أو يفيد التحذير الفلسطيني والعربي من تحوّل الصراع إلى ديني؟ هل إذا هوَّدوا الأقصى سُيلغى التطبيع العربي مع الصهاينة؟ وهل ستحتشد الجيوش العربية على حدود فلسطين لتحرير القدس؟
المراقب للأحداث لا يظن ذلك، سواء وُصف الصراع وطنيا أو قوميا أو دينيا، فحال العرب تدنّى في منازل دُنيا، ولا أحطّ مما وصف بقمة النقب (مارس/ آذار 2022)، ولا من زيارة وزير الخارجية التركي مولود جاووش أوغلو قبر تيودور هرتزل. .. ولا رهان سوى على الدم والإرادة الفلسطينيين، مع اعتزاز الفلسطيني بأخيه العربي والمسلم المكلوم والمقموع الذي لا يملك ما يقدمه لإخوانه سوى التعبير عن التضامن، أو الدعاء له في أقل تقدير.
لقد أُعلنت الحرب الدينية من الطرف الآخر، أي الصهيوني، بشقّيه اليهودي والمسيحي الإنجيلي، منذ وعد بلفور وليس انتهاءً بوعد ترامب، ولا أظن أن القيادات الفلسطينية والعربية تجهل ذلك. وتحذير الجهات الرسمية العربية والإسلامية من وقوع حرب دينية إذا استبيح الأقصى مردّه خشية من أن يفلت زمام الأمور إلى ما لا يمكن السيطرة عليه. وثانيًا هو بمثابة دقّ لناقوس الخطر للعرب والمسلمين بأنهم إذا لم يقفوا إلى جانب إخوانهم في فلسطين، سيضيع المسجد الأقصى ويُهوّد، كما هُوِّدت معظم أراضي فلسطين. إذًا التحذير هو صرخة لكسر جدار الصمت، ودعوة العالم كي يقف عند مسؤولياته، فلا أظن أن أيا من الأطراف المُحذِّرة يجهل جوهر الصراع، غربيًا وصهيونيًا.