حرب الرواية من جديد

26 أكتوبر 2023
+ الخط -

كما كان الأمر قبل مرحلة إنشاء الكيان الإسرائيلي وخلالها، ثم خلال حروبه على العرب، كانت الرواية الصهيونية، ومن بعدها رواية الإسرائيليين في فلسطين، وسيلة لتحشيد الدعم السياسي والمادي الذي ساهم في تأسيس دولة الاحتلال وفي دعم حروبها، في غياب رواية الضحية، الرواية الفلسطينية. يتكرّر الأمر في هذه الأيام، مع الحرب الإسرائيلية على غزة، والتي أعقبت عملية طوفان الأقصى؛ إذ استغلّت الدوائر الإسرائيلية والإعلام السائد في دول الغرب، هذه العملية لنشر الرواية الإسرائيلية بغرض شيطنة الفلسطينيين، لتسهيل استهداف حركة حماس والشعب الفلسطيني في قطاع غزّة، مهما كانت الأثمان ومهما خلّفت آلة الحرب الإسرائيلية من ضحايا. وهذا ما أظهر الغرب بمؤسّساته الحاكمة وإعلامه، منقاداً للرواية الإسرائيلية، وهو ما جعَله بالضرورة شريكاً في جرائم جيش الاحتلال.
ما إن التقط المسؤولون الإسرائيليون أنفاسهم، بعدما استفاقوا من صدمة هجوم طوفان الأقصى، في 7 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، واقتحامهم السور الفاصل بين حدود قطاع غزّة والأراضي المحتلة، وسيطرتهم على عشرين مستوطنة وموقعين عسكريين وأسر ما تيسّر من جنود ومدنيين، حتى بدأوا في بثّ سرديّاتهم المكرّرة والقديمة المعتمدة على أضاليل استخدموها مراراً، وأتت أكلها دائماً، من أجل إسباغ صفة الإرهاب على الفلسطينيين. ثم وبسرعة منقطعة النظير قلبوا الحقائق، واخترعوا قصصاً عن انتهاكات المهاجمين، من قطع الرؤوس واغتصاب النساء وسبيهن، معتمدين في تكوين هذه السردية على تاريخهم الطويل في النفخ في الهولوكوست لإظهار مظلوميّتهم واستمرارها على يد العرب، من أجل ابتزاز الغرب مرّة أخرى.

انطلت الرواية والتهويل الإسرائيليان على الرأي العام الغربي، وعلى الإعلام ومؤسّسات الدول الغربية الرسمية والأهلية التي تبنّت هذه الرواية

لقد نجح الإسرائيليون أيّما نجاح في مهمّتهم هذه، فاستطاعوا، بسرعةٍ كبيرة، تحشيد آلة الغرب الإعلامية والدبلوماسية والعسكرية، نافخين في الروح الاستعمارية لهذا الغرب لإحيائها، تلك الروح التي كانت من أهم الدوافع التي ساهمت في سرعة استجابة الدول الغربية، وفي تبنّي سردية الإسرائيليين، ثم المسارعة إلى تقديم الدعم، من أجل إنقاذ "إسرائيل" من خطر أظهروه أنه من العظمة إلى درجة أنه سيؤدّي إلى زوالها سريعاً إن لم يستجيبوا. وكان لعودة الإسرائيليين إلى الادّعاء أنهم يواجهون إرهاباً، و"حيوانات بشرية"، كما وصف وزير الحرب الإسرائيلي، يوآف غالانت، الفلسطينيين، دورٌ في تصوير أنفسهم ضحية في النزاع القائم في المنطقة. وبالتالي، في جعل الدول الغربية تتسابق إلى تقديم الدعم العسكري والمادي، والتقاطر على تل أبيب "للتضامن" مع الإسرائيليين. وقد انطلت الرواية والتهويل الإسرائيليان على الرأي العام الغربي، وعلى الإعلام ومؤسّسات الدول الغربية الرسمية والأهلية التي تبنّت هذه الرواية. وكرّرها كثيرون في الغرب، على الرغم من عدم تأكّدهم من صحّتها، كما في ادّعاء قطع رؤوس الأطفال التي ردّدها الرئيس الأميركي، جو بايدن، وتراجع البيت الأبيض عنها، وكتبت صحيفة واشنطن بوست أن لا بايدن ولا أي مسؤول أميركي رأى صوراً لفظائع أو تأكّد من صحة تقارير بشأن قطع عناصر "حماس" رؤوس أطفال إسرائيليين. غير أن بايدن عاد وتحدّث عن مسؤولية الجهاد الإسلامي عن تفجير مستشفى المعمداني في غزة، متبنّياً الرواية الإسرائيلية التي لم يؤكّدها أي تحقيق.
ولا يمكننا تقدير مدى خطورة استمرار هيمنة الرواية الإسرائيلية، وعودتها إلى الانتشار بعدما تضعضعت حين صُدم الغرب بالواقع والحقيقة بعد الانتفاضة الفلسطينية الأولى، إلا عندما نسمعها على ألسن من لم نتوقّع مرّة أن يسردوها. حدث ذلك في كلام الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، في حضرة المستشار الألماني، أولاف شولتز، في القاهرة، في 18 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، أي بعد يوم من مجزرة الاحتلال في مستشفى الأهلي المعمداني في غزّة، والتي راح ضحيّتها ما يقارب 500 فلسطيني. فخطاب السيسي لا يحتاج إلى كثير من التحليل، حتى نكتشف أنه سلَّم بضرورة القضاء على الحركات المسلحة في غزّة، وعلى "الإرهاب"، كما سمّاه.

هنالك الكثير الكثير أمام الفلسطينيين ومناصريهم لفعله في حرب الرواية التي تشنّها دولة الاحتلال، والتي تتعاظم أكثر وأكثر

يدفعنا هذا الواقع إلى التساؤل كم يجب على الطرف الفلسطيني الذي يمتلك الحقيقة أن يبذل من جهد لكي يقنع بها الغرب الاعتذاري الذي هرع لنجدة إسرائيل بسبب شعوره بالذنب تجاه اليهود، وأن تصريحات القادة الإسرائيليين هي تحريض على ارتكاب الجرائم بحق الفلسطينيين؟ وما الذي يجب عليهم أن يفعلوه لكي يبيّنوا أن أفعال الإسرائيليين التي أعلنوا عنها، من قطع للماء والكهرباء ومنع دخول الغذاء إلى قطاع غزّة، هي جريمة إبادة جماعية بحسب تصنيف القانون الجنائي الدولي، وإن قصف مستشفى المعمداني جريمة حرب موصوفة؟ من الواضح أن ما رافق الحرب الإسرائيلية القائمة على غزّة هذه الأيام من شيطنة للفلسطينيين، يريد أن يعود بنا إلى الخطاب الأول الذي كان ينفي وجود فلسطينيين، يقول: هنالك فلسطين، لكن ليس هنالك فلسطيني. وحين فرض الفلسطيني وجوده، عملت الدوائر التي يسيطر عليها اللوبي الإسرائيلي في الغرب على نشر المفهوم الذي يقول إن كل فلسطيني إرهابي بالضرورة. وكانت تلك الرواية سائدةً بقوة قبل عملية ميونخ الفدائية سنة 1972، وقبل عملية مطار اللد في السنة نفسها، واجتياح لبنان سنة 1982، وقبل الانتفاضة الفلسطينية الأولى سنة 1987، والتي ساهمت جميعها في إخبار شعوب العالم أن ثمّة إنسانا فلسطينيا يشاركهم العيش على الكرة الأرضية، وهو ليس أكثر من ضحيةٍ للإرهاب الإسرائيلي وللغرب من خلفه.
كتب المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد، في 1984 مقالة طويلة بعنوان "إذن بالرواية". تحدّث فيها عن هيمنة الرواية الإسرائيلية في الغرب نتيجة قوة اللوبي الصهيوني في الدول الغربية، وأذرعه المهيمنة في كل القطاعات، ومساهمته في نشر الإرهاب الفكري، وتهديد كل من يعارض الرواية الإسرائيلية واتهامه بالعداء للسامية. وقد أعطى أمثلة عن أشخاصٍ خالفوا تلك الرواية بعد ما شاهدوه من فظائع ارتكبها الإسرائيليون خلال اجتياحهم لبنان سنة 1982، ثم سرعان ما تراجعوا عن موقفهم بسبب التهديد الإسرائيلي بأشكاله المختلفة. يتكرّر هذا الأمر حاليا، وقد تراجع كثيرون عن الرواية الإسرائيلية بشجاعة نادرة، على الرغم من الإرهاب الفكري الذي يسود دولا أوروبية حالياً، وتجريمها كل من يتعاطف مع الفلسطينيين أو يرفع الراية الفلسطينية أو يلفّ عنقه بالشال الفلسطيني، وهو ما يهدّد بأن يدفعهم إلى التراجع عن التراجع. ولذلك هنالك الكثير الكثير أمام الفلسطينيين ومناصريهم لفعله في حرب الرواية التي تشنّها دولة الاحتلال، والتي تتعاظم أكثر وأكثر، وتجد لها من يتبنّاها في الغرب، وفي مستعمراته العربية التي يبدو أنها لم تخرُج عن طوعه بعد.

46A94F74-0E6B-4FEC-BFDA-803FB7C9ADA6
مالك ونوس

كاتب ومترجم سوري، نشر ترجمات ومقالات في صحف ودوريات سورية ولبنانية وخليجية، نقل إلى العربية كتاب "غزة حافظوا على إنسانيتكم" للمتضامن الدولي فيتوريو أريغوني، وصدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.