حرب الحكومات والتقسيم في السودان

22 سبتمبر 2023
+ الخط -

قال نائب رئيس المجلس العسكري الانتقالي في السودان، مالك عقار، قبل أيام، إن إعلاناً سيصدر عن حكومة جديدة في بورتسودان، عاصمة ولاية البحر الأحمر نهاية سبتمبر/ أيلول الجاري. وأن القرار سيُتّخذ بمجرد عودة رئيس المجلس الانتقالي والقوات المسلحة السودانية، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، من اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك. وفور الإعلان، خرج قائد قوات الدعم السريع، محمد حمدان دقلو، بإعلان مضادّ، تعهد فيه بتشكيل حكومة مقابلة في المناطق التي تسيطر عليها قواته وعاصمتها الخرطوم.

ولتوضيح الأمر، أولاً، يلفت النظر خروج قيادات بارزة من قوى الحرية والتغيير وبسرعة للتعليق على حديث حميدتي وعقّار محذرين من خطر التقسيم. ويلاحظ منذ خروج البرهان من الخرطوم أنه يستعد لإقامة طويلة في بورتسودان، وكذلك تكثيفه الخطاب الذي لا يخلو من عنصرية، وفقاً للقاموس العسكري التاريخي، حينما يتحدّث عن التمرد، ملمحاً بنسبته إلى مجموعات عرقية بعينها من غرب السودان. وهذه وصفة قديمة في التاريخ السياسي للعسكريين في السودان تستخدم عند الحاجة. هكذا وصف الرئيس الأسبق، جعفر نميري، من اتهمهم "بالمؤامرة العنصرية"، وكذلك حينما خلط نميري أوراق اتفاقية أديس أبابا لعام 1972 التي نسفها بتقسيم الجنوب إلى عدة أقاليم.

الحرب في الخرطوم، في تقدير كثيرين، أشبه بحروب المافيا من حيث التدمير المتبادل

وبالتجربة، ليس مهماً قرار قائد الجيش البرهان، بل المهم متابعة ما ستفعله ثلاثة أطراف أخرى، أولها أنصار النظام القديم أو مجموعة الهاربين من سجن كوبر الذين اتخذوا من مدينة كسلا مركزاً لقيادة العملية السياسية والعسكرية، وما سيكون عليه ردّ فعل "الدعم السريع"، وأخيراً ما ستفعله القوى الأخرى التي تحمل السلاح، وخصوصاً مجموعة عبد العزيز الحلو، التي تقتطع عملياً جزءاً مهماً من جنوب كردفان. مع ملاحظة أن القوى السياسية ستأخذ مكانها في الصورة مكملة للمشهد، من مواقع المراقبين، فليس لهم وزن ضمن هذه المعادلة.

بالنسبة إلى أنصار النظام السابق، بقيادة علي عثمان محمد طه، وليس عمر البشير الذي يتراجع ذكره، فيما تبرز القيادة الحقيقية من قائد التنظيم الإسلامي، علي عثمان وأحمد هارون وغيرهما. وتواجه هؤلاء عقبات كبرى، يمكن أن تكون مدمّرة. فعلى عكس ما يفترض أنهم قد اختاروا كسلا مقرّاً لهم بحكم تأييد حامية الجيش الموجودة هناك، وقوامها إسلامي متجانس وتام الولاء، لكن تأييد حامية الجيش والقيادات الأمنية الأخرى ليس كافياً، فهناك أيضاً تتمركز حركة البجا المسلحة والقوية، وهناك قوات الأسود الحرة بقيادة محمد مبروك. أضف إلى ذلك الجوار المباشر لمدينة كسلا المتمثل بالحكومة الأريترية الجارة بقيادة أسياس أفورقي الذي لا يخفي عداءه للإسلاميين في السودان. وهناك الفكرة القديمة التي أفصح عنها عمر البشير لأحد قادة الدول الخليجية، بقوله: "أرغب في فصل شرق السودان، لأنهم مجموعة قبائل ليس وراءها سوى المشاكل"، فردّ عليه سامعه: "إذا سلمنا أنك ستفصلهم، كيف تستغني عن منفذ البلاد على البحر الأحمر؟"، فرد البشير: "سنصل إلى البحر من الشمال" (يعني من عطبرة وشمالها المحاذي للبحر الأحمر)، فغضب المسؤول الخليجي، وطلب من البشير التخلي عن هذه الفكرة تماماً، واستكتبه تعهداً بذلك، قائلاً: "يكفي أنكم فصلتم جنوب السودان، ولن نسمح لكم بفصل الشرق". هذه حقيقة متداولة بكثافة لدى قوات البجا المسلحة. ووقتها وقّع البشير اتفاق شرق السودان مع قادة مؤتمر البجا. المُراد قوله هنا، أن فكرة الانفصال في الشرق ستبدو قاتلة للحركة الإسلامية، لأنها تعيش في بحر من الأعداء التاريخيين لها.

يلاحظ منذ خروج البرهان من الخرطوم أنه يستعد لإقامة طويلة في بورتسودان

أما الطرف الثاني، "الدعم السريع"، فيعيش، في المقابل، فوق رمال متحرّكة من الأعداء. فمن سيحكم حميدتي وكيف، وهو لم يترك له صليحاً، لا في الخرطوم ولا في غيرها؟ ما سبّبته قوات الدعم السريع، وبشكل مباشر في حق المدنيين، يفوق كثيراً ما سبّبته آلة القوات الجوية السودانية، باعتبارها المدمر الأكبر لممتلكات المدنيين. ومن المؤكّد أن الحرب في الخرطوم، في تقدير كثيرين، أشبه بحروب المافيا من حيث التدمير المتبادل. ومن يتأمل في تفاصيل الدمار في الخرطوم، يجد أنه قد طال، بشكل خطير، المصانع والمؤسّسات المالية الخاصة والحكومية والبنوك، كأنما هي حروبٌ انتقامية للمافيات المسيطرة على قيادة الجيش أو الدعم السريع أو الرأسمال السوداني الذي وجد في الثورة الشعبية فرصةً لتوسيع دائرة هيمنته على الاقتصاد السوداني.

الطرف الثالث في معادلة التقسيم تمثله الحركات المسلحة، وهي من الضعف بمكان، بحيث تحوّلت الى ناعق شؤم ليس أكثر، فهي لا تمتلك القدرة العسكرية ولا الرصيد البشري للقيام بأي دور، وهي تتفق، من حيث ضعفها وقلة حيلتها، مع القوى السياسية من "الحرية والتغيير" وغيرها، التي اكتفت بدور المعلّق على الأحداث.

أخلص هنا إلى أن فكرة التقسيم، وإن بدت عناصرها حاضرة من ضعف شديد في الدولة وتآكل مركزها، إلا أن تنفيذها يعني ببساطة تمدّد رقعة الحرب إلى حرب أهلية قبلية عرقية شاملة. وعملياً، ستشهد الفترة المقبلة تكثيفاً في العمل العسكري الميداني، لتحقيق مكاسب، أهمها إحكام السيطرة على العاصمة الخرطوم، باعتبارها المركز الأهم. يجري كل هذا المشهد وسط غالبية صامتة داخل القوات المسلحة السودانية، يصفها أنصار النظام القديم بالطابور الخامس والمتواطئ مع أعداء الجيش والنظام القديم. ويضع آخرون الآمال في تحرّك غالبية فرق الجيش الصامتة والموزّعة في أقاليم السودان المختلفة، لردع أطراف الحرب، وإبعاد الأطراف المشاركة فيها عن المشهد السياسي. قد يكون في ذلك مخرج ومفتاح للحلّ... من يدري؟

0CD72F94-2857-4257-B30C-7F645EA599D7
طارق الشيخ

كاتب وصحفي سوداني، دكتوراة من جامعة صوفيا، نشر مقالات وموضوعات صجفية عديدة في الصحافة العربية، يعمل في صحيفة الراية القطرية، عمل سابقاً رئيس تحرير ل "الميدان" الرياضي السودانية.