حربٌ في الطائرة
قلتُ أنتقي روايةً قليلة الصفحات مما لديّ، أقرأها في الطائرة من الدوحة إلى عمّان. فضلتُ أن تكون لكاتبٍ لم أقرأ له بعد، وغير عويصة التركيب والتجريب. اخترتُ "غداء في بيت الطبّاخة" (دار العين، القاهرة، 2023)، بعد أن جالت عيناي في بعض صفحاتها، وهي العاشرة لصاحبها محمّد الفخراني (1975)، ولم أكن قد قرأتُ أيا من سابقاتها التسع. أشعرني عنوانُها بارتياحٍ، جعلني أتوقّعها على شيءٍ من المرح، فاستطبتُ أن أحلّق في الجوّ وأستطعم، ربما، غداءً طيّبا فيما الطائرة تُقلع في صباحٍ مبكّر، وأن أتعرّف على سرد كاتبٍ غزير، وهو يصطحبني إلى بيت طبّاخة.
حرب... المفردة الأولى في أولى الصفحات (140 من القطع القصير). جنديٍّ في حربٍ، يتّجه إلى غابةٍ، وزملاؤه مقتولون أو أحياء. سقط في خندق، سقطت قدمُه في الفراغ، وارتطم جسمُه بأرض الخندق، وأشجارٌ محروقةٌ يتصاعد منها دخان... أراني أقرأ هذا، فأحوقل وأستعيذ. أتوقّع غداءً وطبّاخة، ثم أجدني في حربٍ وخندق، وبين رصاصٍ وقتلى ودماء، و"جنودٍ من الطرف الآخر في الحرب، تظهر سيقانُهم وتختفي في الدخان". كأني، إذن، شربتُ مقلبا. للتوّ، غادرتُ أخبارا عن اقتتالٍ بين مليشيا فاغنر وقواتٍ روسية، وعن صواريخ ضربت إدلب، وعن معارك في أوكرانيا تتصاعد فيها أدخنةٌ، وعن الخرطوم، يواظبُ المتحاربون فيها على التدمير والسلب وخرق الهدن. أترك هذا كلّه على شاشات التلفزيون، وأسافر، ثم أنتظر غداءً في بيت طبّاخة، لأتخفّف من أخبار المعارك والقذائف. ولكن، ما أن أصير في الجوّ، ألقاني أسافر مع حربٍ بين يديّ في دفّتي روايةٍ اخترتُها بعد تدقيقٍ وحذرٍ باهظيْن.
كأن محمّد الفخراني، إذن، زاول معي خديعةً، فيما لا نعرف بعضَنا أبدا. إنه يُحدِّث عن صوت انفجارٍ من بعيد، يسمعُه ذلك الجندي الذي وجد نفسَه في الخندق، وتصادَف مع جنديٍّ آخر. فيُحدِث هذا الانفجار (أو صوتُه؟) فيّ تطيّرا، وأنا الذي لا أتهيّب من الطائرات وعلوّها، وأستمزج المقعد عند الشبّاك. وفي هذه السفرة، لم أُحرزه، وإنما أحرزتُ حربا لا مكان ولا زمان لها، وطرفاها غير معلوميْن. عندما يتجادَل الجنديان في الخندق، بعد أن يغرِز واحدُهما سكّينا في الجانب الأيمن من صدر الآخر (لا يموت)، وبعد أن تُصابَ ساقٌ للثاني برصاصةٍ أطلقها عليه ذاك، عمّا إذا أراد كلٌّ منهما قتل الثاني، تستشعر عبثا، سيما وأن كلا منهما، وهما بلا اسميْن، بعد هذا، ينصرفُ إلى حديثٍ عن نفسِه، لنعرف أنهما طبّاخ ومدرّس تاريخ سابقان. يعمل كلٌّ منهما على مداواة جرح الآخر. ويتناوب سردُ كل منهما عن نفسه، متقاطعا مع سرد الراوي، فيذهب إلى خارج الغابة والخندق والمعارك وظلالها، إلى ذكرياتٍ يتراسل الكلام عنها بحنينٍ شفيف. صار اثناهما صديقيْن، يلعبان الكرة معا، يدردشان كيفما اتفق، يحمل كلٌّ منهما رسائل الثاني ليوصلها إلى المرسَل إليهم، الأسرة والعائلة، إذا أودَت الحربُ بأيٍّ منهما.
كأن محمّد الفخراني يُراوغ معي، هنا، عندما يُبعد عنّي، وأنا في الطائرة الممتلئة بركّابها، أصواتَ طائراتٍ تتحارَب، ورصاصا وجنودا مقتولين وأحياء ودما نازفا وعشبا ميّتا، كأنما استشعر أن سويداءَ قد تستبدّ بي إذا واصل هذه المشاهد. ولكنه تاليا، يمنح الحرب صفحاتٍ لتنطق بالذي في جوفِها من كلام، عن الإنسان سبب كلّ قتالٍ، عن بُغضها أسوأ أنواع القتل، باللّغم الغادر. تقول: "كلّ شخصٍ وكلّ حيوانٍ وكلّ سمكةٍ وكلّ شجرةٍ وكل طائرٍ وكلّ شيءٍ في العالم يحصل على إجازة، استراحة، إلا أنا". تُخبر إن "طفلةً جوّانيةً في مكان جوّاني" بداخلها. تقول "أتفرّج على الكرة الأرضية، الأرض، وأتساءل.. كل هذا القتل يحدُث فيها؟ ولماذا؟ لأجل انتزاع مساحة زيادةً من أرض، أو لفكرةٍ غبيةٍ تتحكّم بعقلٍ غبيٍّ ما، أو غلٍّ يحملُه إنسانٌ لغيره".
ولكن، من هي الطبّاخة وماذا عن الغداء في بيتها؟ إنها أمّ الجنديّ الطبّاخ الذي يدعو كل الجنود المتقاتلين، في الغابة وعلى التلال، إلى الغداء في بيتها، فيسيرون إليه، ثم يأكلون فيه مع بعضهم بعضا في أطباقٍ مشتركة، ووراء بعضِهم بعضا في الأطباق نفسها و"لم يندموا". .. إذن، هي فانتازيا، يطلبُ فيها محمّد الفخراني من كل المتحاربين أن يغادروا الحروب، ويأكلوا معا. يُخبر الطبّاخُ "صديقه" مدرّس التاريخ بأن يذهب، تاليا، إلى بيت أمّه الطبّاخة، سيجده هناك إذا نجا من الحرب، فيطبُخ له، وإذا لم ينجُ تطبُخ له أمّه.
تهبط الطائرة في عمّان، وقد أكملتُ فيها قراءة روايةٍ تشفّ عن جديدٍ نابه. أعِد نفسي بقراءة أعمالٍ أخرى لكاتبها، في الأرض لا في الطائرة، فخديعةٌ واحدةٌ تكفي.