حربٌ تبحث عن شرعية
خمسة عشر يوماً من المعارك في الخرطوم. انهار الحلف الهشّ بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في 15 إبريل/ نيسان الحالي، واندلعت الحرب التي لم تهداً. أقرّ قائد الجيش، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، في اتصال هاتفي مع قناة فضائية، بأن لا أحد يعرف متى يمكن أن تنتهي الحرب. رغم البيانات المتعاقبة من الطرفين التي تبشّر المواطنين بقرب ساعة الانتصار، من الواضح أن إشعال الحرب أهون كثيراً من الانتصار فيها.
تدور الحرب داخل العاصمة التي ظلت منذ تأسيسها في منتصف القرن التاسع عشر تحظى بأمان نسبي. ولأن أغلب سكان الخرطوم بمدنها الثلاث (الخرطوم، الخرطوم بحري، أم درمان) لم يعتادوا على حياة الحروب، فقد بدأ النزوح من المدينة في الأيام الأولى للمعركة. تحرّك المواطنون نحو ولايات السودان الأخرى التي لم تطاولها الحرب، بينما تكدّس آخرون على الحدود السودانية المصرية عند معبر أرقين.
يعيش أغلب الذين بقوا في المدينة رهائن القتال من دون ماء أو كهرباء. وتتناقص المواد الغذائية، وانهار النظام الصحي وتوقفت المستشفيات التي يمكن أن يلجأوا إليها. ومنذ اليوم الأول، اختفت مظاهر وجود الدولة. لا شيء هناك إلا المتقاتلين.
يسعى كل جانب من طرفي الحرب إلى إنتاج سردية تجعل لمعركتة شرعية، طمعاً في دعم محلي وتأييد دولي. تدّعي القوات المسلحة السودانية، ويقودها رئيس مجلس السيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان، أنها تخوض "معركة الكرامة"، من أجل دمج قوات الدعم السريع في الجيش. وتقول بياناتها بحسم: "لا مكان لوجود جيشٍ غير القوات المسلحة، ولا تفاوض مع القوات المتمرّدة". على الجانب الآخر، تدّعي قوات الدعم السريع بقيادة نائب رئيس مجلس السيادة الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي) أنها تخوض معركة من أجل الديمقراطية، ولتسليم السلطة للمدنيين بعد القضاء على قيادات الجيش المتحالفة مع من أسمتهم "المتطرّفين". وتعد بياناتُها بعزم أنها "ستقدّم قائد الجيش عبد الفتاح البرهان الى المحاكمة لارتكابه جرائم ضد الشعب".
من العسير قبول روايتي الطرفين، رغم أن دمج قوات الدعم السريع في الجيش وتأسيس جيش سوداني بقيادة موحّدة من المطالب الرئيسية للحراك الثوري في الشارع السوداني. كما أن إقصاء الحركة الإسلامية التي حكمت البلاد 30 عاماً بقيادة المشير عمر البشير، وتسليم السلطة لحكومة مدنية، مطلبان سقط دونهما ضحايا كثر في الاحتجاجات الرافضة سيطرة المجلس العسكري على السلطة في البلاد. ولكن لا أحد يظن أن هذا الجانب أو ذاك يقاتل لما يقول، فكل تهمةٍ يطلقها أي جانب على الآخر يمكن بسهولة توريط مطلقها فيها، فالجيش السوداني الذي يريد دمج قوات الدعم السريع بالقوة، ويرفع شعار "لا يمكن أن يكون للدولة جيشان"، ظلّ متحالفاً مع قوات الدعم السريع سنواتٍ من دون أن تكون خاضعةً لسلطته. وكان بينهما تحالفٌ قوي، يمدحه القائدان. ويشهد قائد الجيش تخريج جنود قوات الدعم السريع، ويُثني على دور قواتهم في حفظ أمن البلاد. لذلك يبدو عجيباً أن يتنبّه الجيش فجأةً للحقيقة التي كان يعلمها الجميع، أنه لا يمكن قبول وجود جيشين في أي دولة. وأن ذلك هو بوّابة الحرب والاقتتال والفوضى. أما قوات الدعم السريع التي تتهم الجيش بأنه أصبح قوة انقلابية، فهي شريكة للقوات المسلحة في كل معاركها في إقليم دارفور الملتهب. وهي من خاضت مع الجيش انقلاباً فاشلاً في 3 يونيو/ حزيران 2019 على قوى إعلان الحرية والتغيير عندما أوشك التفاوض بينهم على النجاح. ثم خاضت معه انقلاباً آخر في 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2021 أطاح حكومة عبد الله حمدوك، وفضّ الشراكة مع "الحرية والتغيير"، وعطّل العمل بكثير من مواد الوثيقة الدستورية الحاكمة.
يبدو القتال على السلطة بين حلفاء الأمس مهرولاً بسرعة نحو فوضى شاملة تضرب البلد المثقل بتاريخ النكبات. والقوتان لا يهتمان بالهاوية التي تسير إليها البلاد. لكنهما منشغلان بمحاولة اكتساب شرعية لحربهما. بينما ينزح السودانيون إلى دول الجوار، وهم يلعنون الحرب وطرفيها ويحلمون بتوقّفها.