حراك الجزائر .. حدود الممكن وفرص التغيير
قرأ مذيعا نشرة الأخبار الرئيسية في التلفزيون الحكومي الجزائري برقية لوكالة الأنباء الرسمية، استدعت معجم اللغة المخشبة، وحاولت تشويه مظاهرات الذكرى الثانية للحراك الشعبي، فكالت للجزائريين الذين خرجوا في كل الولايات (المحافظات) تُهم التلاعب بمصير البلاد. أصرَّت المظاهرات على زخمها، وسلميتها، بينما أنكر التلفزيون الرسمي صور جحافل البشر السائرة في شوارع المدن، وفي وسط العاصمة، وغيَّبها. غاب أيضاً عن المنابر الإعلامية الرسمية، وما يسير في رَكبها من صحف وتلفزيونات ومواقع خاصة، أن النهل من منبع الجحود، قد ولّى زمنه، في عصر منصات التواصل الاجتماعي والفضاءات الإعلامية المفتوحة.
حاولت السلطة إفراغ الذكرى الثانية للحراك من محتواها، أرادت تحويلها إلى مجرّد احتفالات خاوية المعنى، وإلى فعالياتٍ فولكلورية بالية يتزعّمها موظفو الإدارة، طواعية أو كرهاً. تدنى منسوب الثقة إلى أقل مستوياته، تجاهلت السلطة أن الفطنة لدى الشارع تجاوزت مفاهيم أدواتها القديمة. هي التي لا تريد عيش الراهن بكل تحدّياته، تنكُر الواقع بكل متغيراته، وتُقدِّم قرارات إدارية تتخذها، على أنها إنجازاتٍ من رحم الحراك. آخر القرارات في هذا الشأن، رفع عدد الولايات (المحافظات) من 48 ولاية إلى 58، تقع كلها في المناطق الجنوبية الصحراوية التي انتبه سكانها إلى أن نصيبهم من التنمية كان قاحلاً أعواماً عديدة، فهبّوا إلى الحراك، مطالبين بحقهم فيها، خصوصاً أن أرضهم هي منبع الغاز والنفط اللذين يشكلان دخل الجزائر الأساسي. لا تشكل الزيادة في عدد الولايات إلا أعباءً مالية جديدة، وتضخّماً في عدد المسؤولين المحليين، وسينتبه بعض السكان المحليين، المنتشين بارتقاء بلداتهم إلى مصافّ ولايات، إلى أن الأمر لا يعدو أن يكون مجرّد تشديد لقبضة مركزية، على مفاصل الجسم الإداري المترهّل الذي لا يتحرك إلا بمهماز من سلطات المركز في عاصمة البلاد، التي يعود إليها جميع الفاعلين المحليين، للبتّ في أي مسألةٍ من مسائل التنمية، والاقتصاد أو السياسة، لأن القضية ليست في العدد، بل في إيجاد تصوّر جديد للتسيير الإداري والتنموي للأقاليم، لضمان انسيابيةٍ ومرونةٍ في الاستثمارات، ولضمان تمثيل حقيقي للسكان، وإطلاقٍ للحرّيات، وليس مجرد أرقامٍ تضاف إلى ميزانية الدولة المنهكة أصلاً بالنفقات الزائدة، غير المهيكلة، وإلى الفساد المستشري في كل الهيئات والمناطق.
ما زالت السلطة أيضاً تغلق منافذ العاصمة، للحد من تدفق المتظاهرين إليها من المناطق الأخرى. على الرغم من ذلك، تظاهر سكان العاصمة، ومن نفذ إلى قلبها من الأقاليم، واعتقلت الشرطة عدداً منهم، فمحت بذلك قراراً كان رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون، قد اتخذه بإطلاق سراح معتقلي الحراك ليلة ذكراه. تتباين الرؤى بين سلطةٍ تستعمل أدوات الشد، والجذب، والمجتمع المدني، في مواجهة إطلاق الحريات العامة، من دون المساس بالحقوق الدستورية في هذا المجال.
سياسة الهروب إلى الأمام التي تنتهجها السلطة دفعتها إلى إعلان تعديلٍ حكومي، مهمته تهدئة الجبهة الاجتماعية المتوترة
يطالب المجتمع بالتغيير، وتُفضِّل السلطة الرَّكون إلى غريزة البقاء، وبين المفهومين بون شاسع لا يمكن جسره بسهولة. آمن الجزائريون بأن الحل لا يأتي بالمسكّنات التي تلجأ إليها الإدارة من حين إلى آخر، ولا يأتي الحل أيضاً بدعواتٍ دخيلةٍ على الحراك، حاولت اختطافه إلى وجهة غير التي ارتأتها جموع البشر التي تدافعت تلقائياً في شوارع الجزائر قاطبة، لتأصيل الحراك وجزأرته (من الجزائر)، وعدم تبعيته لأي أفكار غربية أو شرقية، بعيدة عن بيان أول نوفمبر (1954) الذي اختطّ للجزائر منهاج الدولة الحديثة.
طالبت المسيرات الجماهيرية، منذ انطلاقة الحراك، بحلّ مجلس النواب المطعون في شرعيته، وفي نزاهة المنتسبين إليه ممن أوصلهم المال الفاسد إلى شراء مقاعده. يومها، ناورت السلطة لأنها كانت بحاجةٍ لأعضاء مجلسٍ لا يرفضون لها طلباً، أو قانوناً تريد سَنَّه. ولأنها أيضاً كانت تعتبر حلّ المجلس وقتئذ انصياعاً لضغط شارعٍ لا تريد أن تظهر ضعيفة أمامه. لكن السلطة، من أجل تهدئة الجماهير نفسها، والحؤول دون خروجها إلى الشارع للتظاهر، قرّر الرئيس عبد المجيد تبون حل مجلس النواب وإجراء انتخابات تشريعية، لم يحدّد لها تاريخاً. قرار كان يُنتظر منه سحب البساط من تحت المتظاهرين في عملية استباقية، أثبتت مظاهرات 22 فبراير 2021 أنها لم تُقنع الناس، ولم تستطع الوصول إلى هدفها، لأن قصدها كان تعطيل المسيرات، وإسكات الشارع، وليس جلب الحلول لأزمة سياسية معقدة لا تهدأ في غياب العلاج الحقيقي لها.
الغد الأفضل لا سبيل أمامه إلا مواصلة العمل السياسي السلمي، وتنمية نباهة العقل، والوعي لدى الجماهير
سياسة الهروب إلى الأمام التي تنتهجها السلطة دفعتها إلى إعلان تعديلٍ حكومي، مهمته تهدئة الجبهة الاجتماعية المتوترة نتيجة عدد من الأزمات والمشكلات التي فشلت الحكومة السابقة في إيجاد حلٍّ لها، بزعم أن من شأن تغيير الوزراء أن يعطي نفَساً آخر للحكومة، ومن ثمّة هواء جديد في غرف السلطة المعتمة. بين مَن يصف الحكومة الجديدة بأنها حكومة تصريف أعمال، نظراً إلى أن تسميتها جاءت على مقربةٍ من انتخابات نيابية، ومَن يعتبر أن المشكلة الجزائرية سياسية بامتياز، ولا تمثل الحكومة، تمظهر تكنوقراطي لسلطة تغيّر الوزراء كلما أرادت أن تفسح المجال أكثر لنفسها في الاستمرارية على النهج نفسه، تدفع بهم كبش فداءٍ لأزمة تتجاوزهم، ولا يستطيعون أمامها القيام بأي فعل، أو رد فعل، إلا ما يرد من بعضهم من حديث سرّي، لعدد من المقرّبين، عن عجزهم عن اتخاذ القرارات الصائبة، في مجال اختصاصهم، نظراً إلى تدخل "مراكز قوى" في قراراتهم، إما بتعديلها، أو توجيهها، أو حتى بإلغائها. وهناك أيضاً من يتحدّث عن تدخلها بفرض أسماء في الحكومة، ليست مؤهلةً بالضرورة لتسيير الوزارات المكلفة بها، وهو ما قد يؤكد حقيقة تعدّد مراكز صناعة القرار.
قد يقول قائل إن التعديل الحقيقي للحكومة يجب أن ينطلق من انتخاباتٍ تشريعية نزيهة، يُختار فيها شخصياتٍ فعالة يمكنها إحداث التغيير، وإن على الحراك أن يتأسّس من خلال المشاركة في الانتخابات النيابية والمجالس المحلية المقبلة، وإن النظام الذي بُني على عقيدة حكم منذ الاستقلال، عام 1962، لا يمكن أن يتغير بسهولة، فمن دون وصول الحراك إلى مبتغاه نضال سلمي دائم، ونفَس طويل، ومشاركة في المؤسسات الشرعية، المحلية والوطنية، لقطع الطريق على الانتهازيين، وأكلة الولائم، والغنائم.
جميلٌ أن تحلم الجماهير بغد أفضل، والغد الأفضل لا سبيل أمامه إلا مواصلة العمل السياسي السلمي، وتنمية نباهة العقل، والوعي لدى الجماهير، ووضع الجزائر فوق كل اعتبار، وتجاوز لغط التفاصيل والهوامش.