حاشية بشأن القضية 173 في مصر
نشرت صحف مصرية، الأسبوع الماضي، أنه تم استبعادي من القضية رقم 173 لسنة 2011. ابتسمت كثيرا للخبر، فإدراجي في تلك القضية كان مفاجأة، كما تبرئتي منها. تمتد التحقيقات فيها إلى عدة سنوات ماضية، بدأت في صيف 2011. ويطلق عليها قضية المنظمات، ويقال عنها أيضا إنها قضية خنق المجتمع المدني ومطاردته، ويطلق عليها إعلاميا قضية التمويل الأجنبي. تمت إثارتها في صيف 2011، بعد اتهامات وجهها المجلس الأعلى للقوات المسلحة، الحاكم وقتها، ضد حركة 6 إبريل، ثم ضد المجتمع المدني والمنظمات الحقوقية بشكل عام، حيث تم اتهام الجميع بتلقي تمويلات أجنبية من الخارج والتآمر على مصر، وتمت مداهمة عديد من مقرّات منظمات أميركية وأوروبية عاملة في مصر. في العام نفسه، وبعد اعتراض الإدارة الأميركية والحكومات الأوروبية على تلك المداهمات، وعلى إدراج مواطنين من رعاياها في تلك القضية، هبطت طائرة عسكرية أميركية في مطار القاهرة، ليتم إجلاء الأميركيين المتهمين، ثم تم ترحيل الأوروبيين تباعا، فيما بقي المواطنون/ المتهمون، الموظفون المصريون الذين كانوا يعملون في تلك المنظمات الحقوقية الدولية، ليدخلوا في محاكمة (غيابية) استمرت سنوات، إلى أن برّأتهم المحكمة عام 2018.
وفي الوقت نفسه عام 2011، تم إدراج جمعيات ومنظمات حقوقية مصرية عديدة في القضية 173 نفسها. وللدقة، يمكن القول إنها الجمعيات والمنظمات، الدفاعية أو الحقوقية، التي كان لها نشاط شبه معارض لنظام الحكم قبل ثورة 25 يناير (2011)، أو التي كانت لها مواقف واضحة ضد انتهاكات حقوق الإنسان قبل الثورة وبعدها، أو التي ساهمت في فضح تزوير الانتخابات التشريعية والرئاسية قبل 2011، أو التي ساهمت في تدريب النشطاء المعارضين، وتوفير الدعم القانوني أو المعرفي لهم. وقيل وقتها إن هناك تحقيقات حول حركة 6 إبريل، على الرغم من أنها لم تكن منظمة مجتمع مدني رسمية في ذلك الوقت. وقد سخرنا كثيرا من تلك النكات الهزلية، كما تبدو عليها الاتهامات والشائعات حول تلقي تمويلات أجنبية من أجل قلب نظام الحكم.
محاضر التحرّيات الأمنية مبنية على أقاويل مجهولة من دون أدلة، أو مبنية على تصريحات لشخصيات معادية للثورة
نشر في عام 2012 تقرير في موقع صحيفة "الأهرام" على استحياء، تضمّن تصريحا للمستشار القاضي أشرف العشماوي الذي كان مكلفا بالتحقيق في اتهامات التمويل الأجنبي، إنه لم يجد ما يثبت تلقي حركة 6 إبريل تمويلات أجنبية من الخارج قبل الثورة أو بعدها، إنما وجد أن الجمعيات الدينية المرتبطة بالجماعة السلفية قد تلقت بالفعل عدة ملايين من الدولارات والريالات من السعودية، وأن هناك عدة جمعيات كانت قريبة من نجل الرئيس السابق، حسني مبارك، تلقت ملايين الدولارات تمويلا أجنبيا لأنشطة اجتماعية، ولكن هذا التصريح لم يلق صدى كبيراً، وسط ذلك الكم من الهجوم والاتهامات المستمرة ضد حركة 6 إبريل وضد شخصي. ولم تجد تلك التبرئة طريقا وقتها وسط سيل الاتهامات والهجوم الإعلامي بعد الثورة، فبعد ثورة يناير وتنحّي مبارك، دأبت أبواقٌ موالية له، كانت مرتبطة بالأجهزة الأمنية، على اتهام الحركة واتهامي بشكل شخصي بتلقي تمويلات أجنبية، بغرض تدمير البلاد والمشاركة في مؤامرات دولية لإسقاط نظام الحكم وتفكيك البلاد. وطوال كل تلك السنوات، لم يتم توجيه تلك الاتهامات بشكل رسمي، أسمعها فقط مثل الجميع في وسائل الإعلام. وفي 2018 تم الحكم ببراءة العاملين في مقرّات المنظمات الحقوقية الأميركية، والأوروبية في مصر، وبدأت التحقيقات مع مديري المنظمات الحقوقية المصرية وموظفيها، ولم يتم إبلاغي يوما بأني مدرجٌ رسميا بتلك القضية، فقط الاتهامات نفسها المرسلة في وسائل الإعلام الموالية للسلطة، وخرافات التآمر وتلقي تمويل أجنبي. إلى أن تم استدعائي رسميا للتحقيق في القضية أخيرا قبل نحو شهرين، على الرغم عدم تأسيسي جمعية أو منظمة مجتمع مدني تتلقى أي تمويل من أي جهة، ولكن رب ضارة نافعة، فلنر الأساس الذي تم بناء عليه كل تلك الاتهامات طوال تلك السنوات. كما توقعت، كانت محاضر التحرّيات الأمنية منذ عام 2011 مبنية على أقاويل مجهولة من دون أدلة، أو مبنية على تصريحات إعلامية لشخصيات معادية للثورة، أما الحسابات البنكية الشخصية فأثبتت عدم تلقي تمويلات أجنبية، كما صرّح بالفعل القاضي الذي تولّى التحقيق في القضية عام 2011.
ترويج، في بعض وسائل الإعلام، أن مصر مقبلة على فترة انفراجة سياسية أو مصالحة وسلام داخلي
الطريف أن اتهامات الأجهزة الأمنية في الأوراق الرسمية كانت معتمدة على مجرّد ظنون وأقوال مرسلة لأشخاص ومصادر مجهولة، فقط ظنون واعتقادات. والأمر الثاني أن التحرّيات الرسمية السرّية كانت، طوال تلك السنوات، تستند إلى تصريحات إعلامية وأحاديث أشخاص هم في الأساس متعاونون مع الأجهزة الأمنية منذ زمن بعيد، فالأجهزة هذه تستمد معلوماتها وتحرّياتها من أشخاص هم بدورهم يتم تلقينهم من الأجهزة الأمنية نفسها. الأكثر طرافة تعليق قالته لي صديقة، إن إدراج اسمي والتحقيق معي فجأة في قضيةٍ لستُ طرفا فيها من البداية ثم تبرئتي منها يشبه أن يعثر المرء على مبلغ مالي كان منسيا في أحد المعاطف الشتوية القديمة، في مصادفة طيبة.
ربط أصدقاء ممن يزعمون علمهم دائما ببواطن الأمور بين الإدراج المفاجئ لاسمي في القضية والتحقيق السريع معي ثم تبرئتي من تلك الاتهامات وما تم إعلانه في مصر قبل أسابيع تحت عنوان "الاستراتيجية المصرية لحقوق الإنسان" فخبر مثل تبرئة أحمد ماهر، وأسماء أخرى لها حيثية أو ثقل في الأوساط الحقوقية، أو الدولية، ستسوقه السلطة أنه ضمن الاستراتيجية الرسمية تلك، وأنه لا عداء من نظام الحكم لثورة يناير، والأفراد، أو منظمات المجتمع المدني التي ساعدت فيها، .."وانظروا كم نحن رحماء بهم". لا أستطيع أن أجزم بصواب هذا التفسير من عدمه، وليس هناك دليل عليه، ولكن، في الوقت نفسه، هناك ترويج، في بعض وسائل الإعلام، أن مصر مقبلة على فترة انفراجة سياسية أو مصالحة وسلام داخلي. ولا أصدّق، وليس هناك مؤشرات حقيقية على هذا، فلا يزال هناك عشرات ومئات من الأصدقاء في السجون، بجانب ما نراه ونسمعه على أرض الواقع من حالات حبس جديدة كل عدة أيام.
التخويف من المؤامرات، وشيطنة المعارضين وإقصاؤهم، هما الطريقة أو الوصفة الناجحة والمستخدمة دائما، وستظل هي الطريق الذي يسلكه كل مستبدّ
عودة إلى موضوع الاتهام بالتآمر وتلقي تمويلات أجنبية، والتي تكيلها السلطة لكل من يعترض على بعض السياسات، أو يختلف معها، نرى اتهامات مماثلة دوما في الأنظمة السلطوية في منطقتنا، وهي الاتهامات السهلة التي يتم توجيهها نحو الآخر، نراها الآن في تونس والجزائر والسودان، وفي كل الأنظمة السلطوية في بلادنا العربية والشرق الأوسط. وذلك ربما بسبب أن كل التيارات السياسية في بلادنا اعتادت الخطاب الشعبوي. الأسهل أن تتهم الآخر، أو المعارض، أو المختلف بأنه متآمر، أو أنه أصابع للخارج. أتذكر أن جماعة الإخوان المسلمين استخدمت الخطاب نفسه عند وصولها إلى السلطة، فروجت أن معارضيها علمانيون يتلقون تمويلات وأوامر من الخارج لهدم الدين. وقد طالت تلك الاتهامات حركة 6 إبريل وقتها، وها نحن الآن نرى خطاب السلطة في مصر منذ 2013، يتهم "الإخوان المسلمين" بأنهم يتلقون تعليمات وأوامر أميركية لهدم مصر، كما رأينا أخيرا أنصار قيس سعيّد في تونس ينشرون اتهامات مشابهة ضد حركة النهضة.
تقول تحليلات وكتابات إن الشعبوية وشيطنة الآخر المستمر وسيلتان للحكم وخداع الجماهير مستمدّة من الإرث الناصري، والدليل أن الناصريين والقوميين العرب يعتمدون نظريات التخوين والمؤامرة لتفسير كل شيء في الكون. ويرى آخرون أن أسلوب شيطنة الخصوم وتخوينه موجود في بلادنا منذ وقت طويل، قبل بداية الحقبة الناصرية، فمثلا كان هناك خطاب شعبوي في مصر في بداية القرن العشرين، مع إنشاء الحزب الوطني، المناضل ضد الاستعمار البريطاني، ثم ظهرت أحزاب ذات أيديولوجية شبه فاشية، مثل تنظيمي مصر الفتاة والقمصان السود. وفي الحقبة الناصرية، كانت "الشمّاعة" أو الذريعة الاستعمار وأعوانه، فلا أحزاب خوفا من اختراق الاستعمار لها، ولا مجتمع مدنياً حرّاً، خوفاً من تغلغل الاستعمار، ولا حريات ولا صحافة ولا حياة سياسية، خوفاً من استغلال الاستعمار ذلك. وهذه هي العقلية المسيطرة اليوم، فلا عجب أن تجد ناصريين كثيرين في مصر يستخدمون خطاب شيطنة الآخر، حتى إن كان هؤلاء أنفسهم من المغضوب عليهم بالنسبة للسلطة الحاكمة.
لكن يبدو أن التخويف من المؤامرات، وكذا شيطنة المعارضين وإقصاءهم، هما الطريقة أو الوصفة الناجحة والمستخدمة دائما، وستظل هي الطريق الذي يسلكه كل مستبدّ، فتكلفتها لديه بالتأكيد أيسر كثيرا من الإصلاح الحقيقي، وستوفر عناء الاستماع للآخر أو الوصول إلى حلول توافقية.