جيل شيرين أبو عاقلة
روت لي أمي، في طفولتي، عدّة مرات، قصة سلوى حجازي، أو "ماما سلوى" كما عرفها جيلها. كانت مذيعة برنامج "عصافير الجنة" الذي تعلق به ملايين الأطفال المصريين، لذلك كانت الصدمة عميقة حين فقدوها في واقعة إسقاط الجيش الإسرائيلي طائرة الخطوط الليبية عام 1973. بعد كل هذه السنوات، كانت والدتي تروي القصة بتأثّر بالغ، كأن الطفلة التي عشقت "ماما سلوى" ما زالت هنا.
أيضاً كنت طفلاً، حين سمعت للمرة الأولى اسم مدرسة بحر البقر الابتدائية من ذكريات العائلة، لا من كتب التاريخ. كان مقتل ثلاثين طفلاً على مقاعد دراستهم عام 1970 صدمة لجيل من الأطفال المصريين الذين رأو الأشلاء الصغيرة لأقرانهم متناثرة حول المدرسة.
شهد جيلي المزيد من "البقع الحمراء" التي لا تزول. كان مقتل محمد الدرّة عام 2000 حدثاً فارقا، وهي المرّة الوحيدة التي شهدتُ فيها طلاب المدارس الابتدائية والإعدادية ينظّمون مظاهرات تلقائية ترفع علم فلسطين. واليوم يضاف اسم شيرين أبو عاقلة إلى ندوب الذاكرة لدى جيلي، ولعله الجيل الأخير الذي مرّ بتجربة الذكريات التلفزيونية الموحدة، قبل تعدّد الفضائيات الإخبارية ثم عصر الإنترنت.
لهذا حفظنا أسماءً مثل طارق عبد الجابر وخميس أبو العافية مراسلي التلفزيون المصري في فلسطين. وبالطبع شيرين أبو عاقلة وجيفارا البديري وغيرهما من مراسلي قناة الجزيرة. لقد دخلوا منازلنا وصاروا كأفراد عائلاتنا، تراهم أمهاتنا أبناءً ونراهم إخوة.
دائما ما وُجد تيار يراهن على حل القضية الفلسطينية على يد جيل جديد، عربي وآخر إسرائيلي، سواء بالمعنى السلبي، أي قبول الأمر الواقع المفروض من المنتصر ونسيان الشباب العرب القضية وسط انشغالهم بهموم بلادهم، أو بالمعنى الإيجابي، أي إمكانية بناء الثقة بين الشباب العربي والإسرائيلي للوصول إلى سلام عادل، حقا لا اسما، سواء على أساس حل الدولتين أو حل الدولة الواحدة.
في كتابها "البحث عن فلسطين"، روت نجلاء، ابنة المفكّر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد، أنه بعدما استخدم هويته الأميركية ليحظى بأول زيارة إلى منزل أسرته بعد عقود من استيلاء إسرائيل عليه عام 1948، قال لها: "إن جيلي هو الذي أفسد كل هذا الأمر، ونحن مرتبطون جدا بما حدث في 48 و67 .. إلى حين أن نرحل، جيلي وشارون وعرفات، لن يتم فعل أي شيء. الأمر متروك لجيلك لإصلاحه". ولكن الواقع أثبت الخطأ التام لفكرة الاعتماد على الزمن لتبريد الصراع، سواء بنيات حسنة أو سيئة، فالقضية ليست تاريخا، بل تتجدّد أمام أعين كل جيل. لم يشهد جيلي نكبة فلسطين، لكننا شهدنا انتزاع المنازل في الشيخ جرّاح وسلوان. لم يشعر جيلي باستفزاز الإنكار الإسرائيلي للمسؤولية عن إسقاط طائرة سلوى حجازي، لكننا شهدنا إنكار قتل شيرين أبو عاقلة.
وكما كانت حياة شيرين مكرّسة لفضح الانتهاكات الإسرائيلية، فقد كان موتها كاشفا، حيث أكد التعامل الإسرائيلي مع الواقعة على مزيدٍ من تصاعد التيار اليميني بمؤسسة الحكم الإسرائيلية، وكذلك تصاعد سلطويتها، حتى إنها تطابق خطابات أنظمةٍ عربيةٍ استبدادية، لطالما تغنت إسرائيل سابقاً بتميزها الديمقراطي عنها.
أحد الأمثلة هو التعامل مع منظمة بتسليم الحقوقية الإسرائيلية، والتي أصدرت تقريراً يفنّد رواية مقتل شيرين على يد مواطنيها، حيث جرى تحديد موقع تصوير فيديو الجيش الإسرائيلي لما قال إنهم مسلحون فلسطينيون ومقارنته بموقع استشهاد شيرين، ليثبت أنه كان موقعا مكشوفا للجيش الإسرائيلي فقط.
سبق أن واجهت المنظمة حملات شرسة. هاجم نتنياهو الملياردير اليهودي الأميركي جورج سورس، وهو نفسه الذي تتهمه أنظمة عربية بالمساهمة في "مؤامرة الربيع العربي". أجرى الكنيست الإسرائيلي عام 2016 تعديلاتٍ قانونيةً للتضييق على تمويل المنظمات. اعتبر السفير الإسرائيلي في الأمم المتحدة أن مكان رئيس مؤسسة بتسليم هو السجن، بعد شهادته أمام المجلس عام 2018، وكان جديد الحلقات تقدّم عضو الكنيست آفي ديختر، يوم الأربعاء، بتعديلاتٍ جديدةٍ تحظر تواصل المنظمات مع الجهات الأجنبية، بما في ذلك الاتحاد الأوروبي، وذلك حرصا على "الأمن القومي الإسرائيلي". مصطلحات أخرى تتشاركها السلطويات العربية.
أختنا شيرين. الموت لا يليقِ بك، لكنه إذا كان محتوماً فإن الأثر الطيب والإخلاص العظيم يحولان فناء الجسد خلوداً في القلوب، وإرثاً تعتزّ به الأجيال.