جوهر الصراع بين مطالب الحقّ وعجرفة القوّة في فلسطين
ثمّة مقاربتان أساسيتان في التعاطي مع الصراع الإسرائيلي الفلسطيني تميّزهما رؤية المتأمل في التحدّي الذي يواجه الشعب الفلسطيني. الأولى، والتي تحكم اليوم تفكير النخب السياسية الحاكمة، تنطلق من رؤية واقعية إلى الأشياء، رؤية تقوم على حسابات موازين القوة، وتعطي أولوية للقدرات الإنتاجية والعسكرية للأطراف المتصارعة، وهي لذلك ترى أن من العبث أن يتصدّى المستضعف للقوي عندما ترجّح موازين القوة قدرة من يملك السلطة والقرار على إلحاق أضرار كبيرة وخسائر فادحة في الجماعات السكانية المهمّشة. تنتشر هذه المقاربة اليوم بين النخب السياسية العربية في صراعها مع القوى التوسّعية في الغرب والشرق، وفي مقدّمتها تيار المحافظين الجدد، الذي يعتبر نتنياهو ممثلّه الأبرز. عمل قادة هذا التيار منذ تسعينيات القرن الماضي، ومن خلال إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش، على تحقيق تفوّق إسرائيلي كامل على المنطقة العربية، ووضعوا لذلك خطّة في نهاية تسعينيات القرن الماضي أطلقوا عليها اسم "الانفصال الكامل" (Clean Break)، وبدأوا بتنفيذها بوصول جورج بوش إلى البيت الأبيض، بغرض إعادة تشكيل المنطقة العربية لتنسجم مع احتياجات إسرائيل، وتحويل الأسواق العربية إلى سوق استهلاكي مفتوح لمنتجاتها، بما يمكّنها من استمرار في بناء قوتها من دون الحاجة إلى الاعتماد على مصادر التمويل الغربية. خطة "الانفصال الكامل" التي أعدها في عام 1996 فريق بقيادة ريتشارد بيرل ودوغلاس فايت (عملا مستشارين لجورج بوش الصغير) بطلب من بنيامين نتنياهو، تضمّنت بنوداً تتعلق بتغيير النظام العراقي وإضعاف سورية، والدخول في علاقاتٍ تجاريةٍ مع المنطقة العربية لتجاوز الصراع العربي الإسرائيلي وتحويله إلى صراع محلي، وتضمّنت أيضاً توصياتٍ بملاحقة المقاومة الفلسطينية إلى أماكن وجودها داخل غزّة والضفة الغربية.
تقوم المقاربة الشعبية على رؤية ترى أن الحقّ مقدّم على القوة وضابط لمسارها، وأنه قادر بما يحمله من زخم شعبي على تفكيك القوى الغاشمة
المقاربة الأخرى لفهم الواقع وسبل التعاطي معه تتبنّاها غالباً القوى المهمّشة التي تواجه واقعاً متهاوياً وظروفاً معيشية صعبة، بسبب سلوكيات النخب المهيمنة على القرار الوطني. تقوم المقاربة الشعبية على رؤية مثالية وقناعات عميقة ترى أن الحقّ مقدّم على القوة وضابط لمسارها، وأنه قادر كذلك بما يحمله من زخم شعبي على تفكيك القوى الغاشمة المتكبّرة التي تسعى لتسخير مقدّرات الشعوب لتحقيق مصالحها الخاصة على حساب المصلحة العامة. وبدلاً من التعويل كلياً على حسابات القوّة، تميل الرؤية المثالية إلى الانطلاق من موازين الحق وقيم الإنسان، وإرادته الحرّة، وموازين التعاون والوحدة. وهذه الإرادة عميقة في المنطقة العربية، لأنها الإرث الذي تركته رسالات التوحيد على امتداد تاريخها الطويل. وهذا ما يجعل التحرّكات الشعبية التي تتبنّى مقاربة الحق في مواجهة القوّة تبدو، من وجهة النظر الواقعية، عاطفية وغير عقلانية، بل ساذجة وواهمة. تتجلّى هذه المقاربة اليوم في ثورات الربيع العربي التي تحرّكت بعفوية، استنكاراً لإسراف النخب الحاكمة في استخدام القوة لتحقيق مصالحها على حساب مصالح الشعوب، كما تتجلّى في الانتفاضات الفلسطينية المتكرّرة على امتداد العقود الماضية، وفي العمليات التي تخطّط لها فصائل المقاومة الفلسطينية، رغم التفاوت الهائل بين القوّة المحدودة التي تمتلكها والقوة التدميرية الهائلة التي تملكها إسرائيل، لفرض إرادتها ومشروعها الاستيطاني على الفلسطينيين، وعلى الدول العربية وشعوب المنطقة المتعاطفة معها، بل وعلى قوى إقليمية ودولية عديدة، رافضة ممارساتها التي تتعارض بصورة فاقعة مع كل القوانين الدولية والأعراف الإنسانية.
لعل الحقيقة الأولى التي يجهلها من يسارع إلى استخدام القوة أن الطريق الأقصر لفقدانها هو التعجّل باستخدام أدوات القهر والبطش
لكنّ النخب السياسية الحاكمة، والنخب المثقّفة التي تشاركها في واقعيتها السياسية، ما زالت عاجزة عن فهم العلاقة بين الحقّ والقوة، رغم كل الإخفاقات التي واجهتها على مدار قرن بسبب منظورها "الحسابي" الضيّق الذي يتجاهل بعداً رئيسياً في الصراع بين مطالب الحق وعجرفة القوة، وبالتحديد التراكمات النضالية التي تعيد، بمرور الزمن، ترتيب العلاقة بين الحقّ والقوة. نعم يمكن للقويّ الذي يملك وسائل القمع والبطش أن يستخدم تفوّقه لمنع أصحاب الحقّ من المطالبة بحقوقهم، وصولاً إلى انتصارات مرحلية في معارك المواجهة، لكنّه يبقى عاجزاً عن الانتصار في الحرب الطويلة التي بدأها، معوّلاً على قدراته على إلحاق الألم والمعاناة في خصومه، بما يملك من وسائل البطش والتنكيل.
هذا المنطق، الذي هو منطق القوة العارية الإسرائيلي في تعاطيه مع الفلسطينيين، ناجم عن جهل بالمصدر الحقيقي للقوة، واستخفاف بالآثار النفسية والاجتماعية على من يوظّفهم للبطش بخصومه من دون ضوابط أخلاقية ودينية وإنسانية. ولعل الحقيقة الأولى التي يجهلها من يسارع إلى استخدام القوة أن الطريق الأقصر لفقدانها هو التعجّل باستخدام أدوات القهر والبطش من دون حكمة أو مسؤولية، لأنّ ما قبل استخدام القوة المفرطة مختلفٌ تماماً عما بعدها، فثمّة عنصرٌ غير محسوب، غائبٌ قبل استخدام القوة العارية، حاضر بعد استخدامها، وهو تحوّل الخوف المربك في وعي المهمّشين إلى غضب محفز يدفعهم إلى تطوير وسائل مبتكرة لتغيير معادلة القوة الغاشمة التي تسحقهم وتغتال أحلامهم وأحلام أبنائهم. لا شيء يحفز الأفراد والشعوب للبحث عن أنجع الوسائل لمواجهة ظلم القوي أكثر من العيش في منظومة سياسية وعسكرية تتجاهل الحقوق وتُسرع لانتهاك كرامة من يخضع لسلطانها وجبروتها.
تبدأ رحلة بناء القوّة دائماً بالتزام الناس قيم العدل والتكافل والتعاون التي هي السبب في تزايد قوّة أي مجتمع إنساني
وهذا يقودنا إلى نقطة مهمة يجب استحضارها دائماً عند النظر إلى العلاقة بين الحقّ والقوّة، أو بين الحقوق والسلطة، أنّ العلاقة في أساسها علاقة تكامل، فالحقّ يحتاج للقوة لإقامة مجتمع إنساني تحفظ فيه الحقوق وتتكامل داخلة مصالح مكوّناته المتنوعة، والقوة تحتاج كذلك إلى الحقّ لمنع توظيفها خارج الإطار الذي تقتضيه قيم العدل والتعاون والتكافل والتراحم التي تليق بالإنسان وكرامة الإنسان. ذلك أن ضعف المجتمعات الإنسانية غالباً ما يتولّد عن تجاهل القيم الضرورية لبناء تلاحم وتعاون اجتماعيين، وأن رحلة بناء القوّة تبدأ دائماً بالتزام الناس قيم العدل والتكافل والتعاون التي هي السبب في تزايد قوّة أي مجتمع إنساني. ومن يتابع واقع الحياة في الأرض المحتلة، يلحظ تزايد التناقضات والصراعات الداخلية ضمن المجتمع الإسرائيلي باطّراد، نتيجة إصرار القوى الحاكمة فيه، التي تزداد تطرّفاً وعنصرية يوماً بعد يوم، على تجاهل كل الضوابط الأخلاقية والحقوقية، والمضي في مشروع عنصري استيطاني يضع الفلسطينيين أمام الخيار الوحيد الذي يملكونه، ويدفعهم إلى تكريس جهودهم لمقارعة الظلم والعدوان، سعياً نحو الحرية والكرامة. ومن يتابع التطورات في المجتمع الفلسطيني، يلحظ ازدياد تلاحم أبنائه وتضامنهم، ويرى إصرار المقاومة الفلسطينية على بناء قواها الذاتية لمواجهة عدوٍّ شرس، وتنامي قدرتها على الاستجابة للتحدّيات، واستعدادها لتقديم مزيد من التضحيات لردّ المشروع الاستيطاني التوسّعي الذي يشكّل تهديداً لقدرة الشعوب على الحفاظ على حرّيتها واستقلالها وبناء مستقبلها ومستقبل الأجيال القادمة.