جنين وحدها عاصمة المقاومة
بعد 21 عاماً على عملية "السور الواقي" التي قادها أرييل شارون، وكانت تستهدف تدمير مخيّم جنين الفلسطيني في الضفة الغربية... ها هو نتنياهو يأمر جيشه بالعودة إليه، قبل أيام: ألف عسكري، مدعّمين بما يفوق 150 آلية عسكرية ودبّابة. طائرات مسيّرات دبابات ببلدوزرات... في عملية سمّاها الجيش الإسرائيلي "غزوة جنين"، وعلى مساحةٍ لا تتجاوز نصف الكيلومتر المربع؛ أعلن أنها "بلا سقفٍ زمني"، وهدفها القضاء على شباب المخيّم الثائرين على انفلات الهجمات الأخيرة على قرى الضفة الغربية، بغية طرد أهلها وإقامة المستوطنات على أنقاضها. وإذا قمتَ بعملية بسيطة: ألف جندي إسرائيلي، أخرجوا سكان المخيم، الثلاثة آلاف، كي يعرفوا كيف يقتلون ثلاثمائة شاب مقاوم... والآن، قسِّم عدد الجنود المهاجمين على عدد المقاوِمين، تحصل على رقم خرافي: لكل مقاوم في المخيم، عشرة جنود يريدون قتله. وعشرات القتلى ومئات الجرحى، والحصار والقصف المتواصل والتهجير... ومع ذلك، لم تدُم العملية أكثر من 40 ساعة. انسحب من بعدها الجيش الإسرائيلي، و"جمّد" غزوته. ماذا حصل؟ هل تعرّضت إسرائيل لـ"ضغوط دولية"؟ أو أخرى "داخلية"؟ أو إعلامية؟ أبداً. لا شيء من هذا كله. والجواب يأتيك على لسان المتحدّث باسم الجيش الإسرائيلي دنيئل هغاري، بعد إصدار الأمر بالانسحاب من المخيم. قال إن "الغزوة" عانت من نقص "المعلومات الاستخباراتية" عن الشباب المقاوِمين من قلب المخيم، ما أفشل عملية الجيش بـ"الوصول إلى جميع الأهداف". فلم تتمكّن "إلا" من قتل 30 منهم؛ واعتقال مائة شاب، أطلقت سراحهم لاحقا لأنهم "ليسوا من قيادات الصفّ الأول"، أي أن 270 مقاوماً تبخّروا في الجو أو البرّ.
وسرّ هذا الفشل هو في الشباب المقاوِمين أنفسهم، الذين حملوا السلاح دفاعاً عن المخيّم: جيل جديد، معظمه ولِد بعد عملية جنين الأولى. ينتمون إلى كل التنظيمات الفلسطينية. ولكنهم "مستقلّون" عنها، كما يقولون، "متطوّعون" و"أصحاب قرار" أيضاً. أي أنهم لا ينفذون تعليمات قادة هذه الفصائل، فعملهم على الأرض من بنات معرفتهم وتربيتهم ومخيّلة آبائهم وأمهاتهم وأجدادهم. تواروا خلال حصار المخيّم، سلكوا طرقا مجهولة من الجيش الإسرائيلي، خدعوا طائرات الاستطلاع والتقارير الاستخباراتية... وكانوا وحيدين، بعيدين عن المحاور والحسابات والسلطتين الحاكمتين، في قطاع غزّة والضفة الغربية. رغم أن "حماس" أطلقت على الإسرائيليين خمسة صواريخ بالمناسبة... تسجيلاً لموقفٍ ربما.
جيل جديد من المقاومين، معظمه ولِد بعد عملية جنين الأولى. ينتمون إلى كل التنظيمات الفلسطينية. ولكنهم "مستقلّون" عنها، "متطوّعون" و"أصحاب قرار" أيضاً
وعندما عاد سكان المخيّم إلى بيوتهم إثر انسحاب الجيش الإسرائيلي، كان سؤال واحد على لسانهم: "ما أخبار المقاوِمين؟". ولم يأتِ ببال واحد منهم أن يستعيد السؤال التقليدي: "أين العرب؟". ذلك أن غالبية سلطات العرب، أغناها وأقواها، صارت على علاقة "طبيعية" مع إسرائيل، فهناك "اتفاقية أبراهام"، الموقعة قبل ثلاث سنوات، تحت رعاية الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب. وهي كما نعلم، بمثابة "إعلان حب". تحتشد فيه المجالات المختلفة، تجارة، اقتصاد، سياحة، طيران، تكنولوجيا، عسكر، استخبارات، أمن... وسفراء. وهذا وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، يزور السعودية قبل أيام من "غزوة" المخيّم، ويشدّد على سيرها نحو التطبيع مع إسرائيل؛ مجدِّدًا في الآن عينه دعمه "الثابت، الراسخ" لإسرائيل، بمليارات من الدولارات.
المحور الإيراني، الذي يسمّي نفسه "ممانعة" و"مقاومة"، غارق هو الآخر في حساباتٍ لا تقلّ سينيكية. بشّار الأسد يتلقى ضربات جوية على أرضه، ضد ثكنات ومخازن أسلحة إيرانية. ولا يرف له جفن. ماذا يقول هو الذي تحتل بلاده خمسة جيوش، متنافسة، متفاهمة؟ غالبها يحمي عرشه؟ هو الذي لم يصدّق نفسه أن "الدول العربية" تطبّع معه، وتمنحه احترامية، سبقهم إليها بوتين وخامنئي؟ فيما درّة التاج الإيراني، حزب الله اللبناني، وضعيته أكثر إثارة. عشية غزوة جنين، حرَّك "الأهالي" في اعتصامات هدفها "إزالة الشريط الشائك وتجاوزه باتجاه الأراضي اللبنانية المحتلة، والمطالبة بتحريرها". ثم نصبَ خيمتَين في بسطرة مقابل مزارع شبعا، أطلق صاروخاً على قرية الغجر المحتلة، وعاد وأعلن أنه "لا يعترف بالخط الأزرق"، فانطلقت الزغاريد في إعلامه، وصفات البطولة والاستشهاد والمقاومة، وزيارات بالجملة لـ"مسؤولي" الانهيار، من نواب و"شخصياتٍ"، احتفاء بهذا "الإنجاز". ... لماذا الخيمتان والصاروخ؟ في هذا التوقيت؟ ما الغرض منه؟ وتخمينات يضيق بها هذا المقال، وجميعها لا علاقة لها بتحرير فلسطين. إنما بتوطيد سلطة حزب الله على اللبنانيين.
عندما عاد سكان المخيّم إلى بيوتهم إثر إنسحاب الجيش الإسرائيلي، كان سؤال واحد على لسانهم: ما أخبار المقاوِمين؟
والسؤال الثاني، القديم، الذي لم يفقد من روْنقه: هل تستدرج خيمتا مزارع شبعا إلى حرب بين حزب الله وإسرائيل؟ فجواب للمرّة الألف؛ أو اللازمة التي تعود كلما استفزّ حزب الله إسرائيل أو "أخافها": من أن إسرائيل "لا تقْدِم على أي مغامرة عسكرية في شمالها"، وأن "هذا التصعيد لن يصل إلى مواجهة"، وان "إيران لن تحرّك حالياً أي جبهةٍ ضد إسرائيل، طالما أن المفاوضات مع الأميركيين ما زالت ضمن الإيجابي وليس السلبي"، وان "كل ما يجري مدروس، ويبقى في إطار العمليات المضبوطة، بشكل لا يخرج عن قواعد الاشتباك"... إلخ. وحلقة مفرغة مستدامة من التهديدات والتطمينات.
هي لازمةٌ ينطق بها أنصار الحزب أكثر من خصومهم، و"الأهالي"، والمعلِّقون والمحلِّلون، وكأنهم بذلك يريدون طمأنة اللبنانيين على ممتلكاتهم وحياتهم. ومن دون أن تُمَسّ شعرة واحدة من "سلاح المقاومة"، أي بمزيدٍ من الإفساد الأخلاقي، بمزيد من التستر والتواطؤ على تلك الحلقة المفرغة، التي صار عمرها اليوم عقدين ونصف العقد، منذ ذاك "الانتصار التاريخي الإلهي الاستراتيجي" في صيف 2006.
ولكن الطريف في الموضوع هو ذاك التصريح الذي أطلقه وزير الدفاع الإسرائيلي، يوآف غالانت، ردّاً على نصب الخيمتَين قال: "سنرد في المكان والزمان اللذين نختارهما، ضد أي انتهاك لسيادتنا وتحدّي وجودنا في بلادنا، وبالطرق التي من شأنها تكبيد المسؤولين عن ذلك ثمناً واضحاً". وعندما يقول مسؤول إسرائيلي هذا الكلام، يعني أنه تشرَّب طريقة حزب الله في "المقاومة". وقد ورثها هذا الأخير عن الأب الروحي للابتزاز الإستراتيجي طويل المدى: حافظ الأسد، والد الشهير بشّار.
جنين فضحت "المحورين". ثم ماذا؟ ماذا بعد الفضيحة؟