جنين تصنع نموذجاً
يستلزم بناء قراءة ملائمة لغايات العدوان الإسرائيلي على جنين، وبالأساس على مخيمها ولتوقيته، أن نتوسّع في الإضاءة على مسألتين لا يجوز إغفالهما. ويمكن القول إنه تمت مقاربتهما إسرائيليًا أيضًا: الأولى، طبيعة أشكال المقاومة للاحتلال وآليّته العسكرية والتي طوّرتها فصائل فلسطينية في الآونة الأخيرة، وكانت جنين بمثابة شاهد عليها. والثانية، التداعيات المترتّبة على هذه المقاومة في ما يتعلق بالأراضي المحتلة منذ 1967، وليس فقط بها.
قبل ذلك، لا بُدّ من ذكر أنّ هذا العدوان، حتى وفقًا للقراءات الإسرائيلية، كان شبه حتميّ على خلفية هاتين المسألتين اللتين تحيلان إلى ما تواجهه دولة الاحتلال من أحداث ووقائع وتجارب في أراضي الضفة الغربية، وما تتخلّلها من خبرات تكتنزها المقاومة ولها تأثير عميق على تصوّرها ذاتها، من جهة، وعلى رسالتها إلى الفلسطينيين والعرب عموماً، كما إلى العالم أجمع، من جهة أخرى.
وباعتراف محلّلين عسكريين إسرائيليين كثيرين، وفي مقدمتهم المحلّل في موقع يديعوت أحرونوت، رون بن يشاي، طوّرت المقاومة الفلسطينية في جنين طرق قتالٍ تسمح بالتصدّي لحملات ما يوصف بـ"الاقتحام العميق"، والتي يقوم بها الجيش الإسرائيلي وجهاز الشاباك والوحدات الخاصة التابعة لحرس الحدود، فقد رصدت المقاومة محاور خروج المركبات التي تحمل القوات الإسرائيلية من الميدان كنقطة ضعفٍ، وزرعت فيها عبواتٍ ناسفةً بكميات كبيرة جدًا على طول تلك المحاور، بهدف تكبيد تلك القوات ثمناً باهظاً.
في البداية، كانت هذه العبوات مصنوعة من مواد متفجّرة من إنتاج محلي، وبأوزان خفيفة وقوة ضئيلة. ولكنها تطوّرت، في الأشهر الأخيرة، إلى عبوات كبيرة، وزن كل منها أكثر من 20 كيلوغرامًا من المواد المتفجّرة، ويتم تفعيلها عن بُعد عبر الهواتف النقالة. وانتبه الجيش الإسرائيلي إلى هذه الظاهرة منذ فترة وجيزة، وبدأ بتحصين قاعدة المركبات العسكرية المستعملة في العمليات داخل مخيم جنين وشمال الضفة الغربية. والعبوات في شمال الضفة يتم زرعها، ليس فقط على جوانب الطريق، بل أيضًا في الأماكن التي يمكن الحفر فيها وسط طرقاتٍ ترابية، وتحدّ من حرية الحركة لجيش الاحتلال، كما ثبت خلال العملية العسكرية الإسرائيلية التي جرت يوم 19 الشهر الماضي (يونيو/حزيران الماضي) في قطاع جنين، ووصفت بأنها "واجهت تعقيداتٍ وتحديّاتٍ أمنيّة جديدة". وأشير بشأن هذه العملية، على وجه الخصوص، إلى أن زرع العبوات يعدّ عملية يصعب القيام بها سرًّا كونها تحتاج نقل العبوة وحفر حفرة وزرعها ثم تغطيتها، والتأكد من أن منظومة تفعيلها ستستقبل الإشارة. وبالرغم من ذلك كلّه، أنجزت العملية من دون أن تتمكّن أجهزة جمع المعلومات الاستخباراتية لدى الجيش الإسرائيلي من اكتشافها والعلم مسبقًا بها، ومن دون أن تحدّد للقوات مكانها.
ويومًا بعد يوم، تتواتر التقارير الإسرائيلية عن غياب المعلومات الاستخباراتية لدى إسرائيل، ما يحول برأيها دون القيام بـ"هجوم منهجي وعميق" على البنى التحتية للمقاومة، فضلًا عن تلميح بعضهم إلى أن هذا الغياب يجعل قادة المؤسّسة الأمنية يتخبطون إزاء ماذا ينبغي أن يكون الحدث التالي.
لا تقلّ المسألة الثانية أهمية، فهذا النموذج من المقاومة ذو العلاقة بمدينة جنين ومخيمها يؤدّي دورًا فاعلًا في تعديل التوقّعات التي يبنيها الفلسطينيون على مواجهة الاحتلال ومقاومة آلته العسكرية الجبارة، ما دفع عدة محلّلين عسكريين إسرائيليين إلى الإقرار بأن الوضع تغيّر، وبأن جنين تصنع نموذجًا يُحتذى ويفرض تطوير طرق عمل إسرائيلية ملائمة أخرى، طبعًا على الصعيد العسكري الأمني. ويُحتمل أن يتمدّد هذا النموذج إلى مناطق أُخرى في الضفة، وهو أمر يمكن ملاحظته بصورةٍ جليّةٍ في نابلس، وبصورة محدودة أكثر في طولكرم وأريحا، ما يؤدّي ربما في أفق منظور إلى نشوء واقع مغاير فيه تهديداتٌ عديدة لإسرائيل في وقت قصير نسبيًا. ويفاقم هذا الأمر مأزق الاحتلال، بمجرّد أنه خلخل استكانته إلى وضع قائمٍ سادت خلاله في الضفة حالةٌ من الهدوء وتراجع عمليات المقاومة.