جنوب مهمل وشمال يئن في ليبيا
تطرّقت نظريات حديثة كثيرة في العلوم السياسية إلى العلاقة بين السلطة السياسية والمؤسسة العسكرية لأي دولة، باعتبارها تعكس، وبشكل واضح، طبيعة الحكم، وكذلك مدى الثقة المتبادلة بين الحكومة والشعب (باعتباره أحد أركان الدولة الثلاثة)، علاقة تتحدّد بالطرق التي تسلكها الدول عند تحديدها مهمات جيوشها، فمنها ما اقتصر على المهام التقليدية، المتمثلة في الدفاع عن الدولة ضد التهديدات الخارجية، ومنها من توسّع في مهام الجيش، لتشمل مهامّ تتعلق بالأمن الداخلي، والمهام المدنية. وعلى الرغم من الاختلاف في تحديد مهام الجيوش، وفي العادة، تقرّها وتنظمها الدساتير والتشريعات الوطنية، إلا أن هناك اتفاقا بين هذه النظريات على أن الجيوش يجب أن تمثل الدولة، بغض النظر عن الحكومة ونظام الحكم وطريقة الحكم، وتنأى بنفسها عن أي تجاذباتٍ سياسية، أو صراعات حزبية، وتقتصر مهمتها الرئيسية في حماية الدولة من الاعتداء الخارجي، وحماية الحدود البرّية والبحرية والمجال الجوي للدولة. بالإضافة إلى تدخلها في حالة وقوع كوارث طبيعية، لتمد يد العون والمساعدة للسكان الذين يحتاجون ذلك، بالتعاون مع أجهزة الدولة المختلفة، واشتراكها أحيانا مع أجهزة الشرطة في السيطرة على الاضطرابات، أو القلاقل التي قد تعرّض أمن الدولة للخطر، مهام جليلة تبعث الشعور بالفخر والاعتزاز لدى المواطن، وتجعله يشعر بالراحة والأمن والأمان والاستقرار، كلما شاهد استعراضا عسكريا لقواته المسلحة، أو تخريج دفعاتٍ جديدة لتلتحق بهذه القوات، لأنه على يقينٍ بأن ذلك لن يصبّ إلا في مصلحة الوطن، وحماية حدوده ودرء الخطر الذي قد يواجهه. وبالتالي، ينظر إلى الجيش رمزا للتضحية والشرف، حيث يقدّم أفراده أرواحهم دفاعا عنه وعن ممتلكاته.
أصبح الجيش في الغرب الليبي يتعامل بأسلوب ردّة الفعل، فكلما خرّج حفتر دفعة، أصرّ المسؤولون في المنطقة الغربية على تخريج ما يناظرها
في ليبيا، يبدو أن الأمر لا يزال يسير عكس هذا الاتجاه، فلا الجيش دُرّب ليتولى الدفاع عن حياض الوطن، وحماية أمنه وسيادته وحدوده، ولا المواطن يشعر بالارتياح عند رؤيته تخريج دفعاتٍ عسكرية متلاحقة، في سباق محموم بين شرق البلاد وغربها، فذلك أمرٌ يثير قلقه وتخوفه، لأنه ارتبط عنده بعودة الحرب بين الأطراف المتصارعة، ذلك الهاجس الذي أصبح يسكنه كلما رأى استعراضا عسكريا أو احتفالا بتخريج جنود جدد، حرب يدرك تماما أن وقوعها من جديد يعني أنه من سيدفع فاتورتها، كما دفعها في السابق، فالأطراف التي هدّمت بيته في الخلاطات أو طريق المطار أو قصر بن غشير، أو غيرها من المناطق، وتلك التي زرعت الألغام في ألعاب أطفاله، وفي حجرات منزله، والتي شرّدته وأسرته، ليست قوات أجنبية غازية، بل هي أطراف تدّعي تبعيتها لجيش بلاده (المزعوم)، سواء في الشرق أو الغرب. والأسلحة التي استخدمت في هذه الهجمات، وأحرقت الأخضر واليابس، ودمّرت كل ما له علاقة بالحياة في هذا البلد هي من أموال هذا المواطن وخيراته، وهو الذي لم يُحرم منها فقط، بل استخدمت لذلّه وتهجيره، واستعملها كل طرفٍ لجلب مرتزقة من كل صوب، بعضها ظاهر للعلن، وكثير منها خفي.
آلاف الدفعات من الجنود والضباط تم تخريجهم، سواء في بنغازي التي لم يكتف خليفة حفتر بالسيطرة على الجوانب العسكرية فيها، بل استخدم أيضا هؤلاء الخرّيجين في إحكام سيطرته على كل مناحي الحياة المدنية فيها، بالإضافة إلى تكليفهم باعتقال كل من تسوّل له نفسُه انتقاد "المشير" أو أبنائه أو باقي المقرّبين منه. وفي الغرب الليبي، الأمور على المنوال نفسه، حيث أصبح الجيش هناك يتعامل بأسلوب ردة الفعل، فكلما خرّج حفتر دفعة، أصرّ المسؤولون في المنطقة الغربية على تخريج ما يناظرها، محاولين بذلك دحض الاتهامات التي تُوجّه إليهم بوقوفهم ضد قيام الجيش والشرطة، وارتمائهم في أحضان المليشيات، ويظل القاسم المشترك بين الطرفين تبخّر هذه الأعداد بمجرّد تخرّجها، إذ يختفي الجميع، ولا يبقى لهم أثرٌ إلا في كشوفات المرتبات، أو ميزانيات الإعاشة.
لا يزال عدد المسلحين والعسكريين والضباط، وحجم الإنفاق على المؤسسة العسكرية، من الأسرار التي ليس من السهل معرفتها
لن يجد متتبع تخريج هذه الدفعات، شرقا وغربا، صعوبة في إدراك حقيقة أن هذه الدفعات لا تختلف عن "الوجبات السريعة"، فهي تُعد على عجل، ومضرّتها أكثر من نفعها، فإعدادها، ومدة تدريبها، والإمكانات المتاحة لمراكز التدريب المسؤولة عن تخريجها ليست كافية حتى لمجرّد التدريب على الضبط والربط، أو الإعداد البدني والنفسي الذي يميز العسكري عن غيره. ويتضح ذلك جليا في بنية هؤلاء الخرّيجين وقيافتهم ونظامهم عند استعراضهم، وذلك متوقع، حين يتم التركيز على العدد، وسرعة التخرّج، لضمان الحصول على نصيبٍ معتبر من الميزانية التي لا يزال اعتمادها عصيا على الحكومة، فقد فشلت كل محاولاتها (حتى كتابة هذا المقال) في اعتمادها وتمريرها من مجلس النواب، بل تفيد تقارير كثيرة بأن أحد أهم الأسباب الرئيسية لعدم الموافقة عليها عدم تضمين مسلّحي حفتر في إدارة الحسابات العسكرية، لضمان صرف رواتبهم، تلك الرواتب المطلوبة لجنودٍ وضباطٍ لا يعرف عددهم أو تخصصاتهم أو رتبهم سوى حفتر، أو "الراسخون في العلم" من المحيطين به. أعداد مجهولة وبيانات غائبة في الغرب الليبي أيضا، فلا يزال عدد المسلحين والعسكريين والضباط، وحجم الإنفاق على المؤسسة العسكرية، من الأسرار التي ليس من السهل معرفتها، إذ قُسّمت المنطقة الغربية إلى مناطق عسكرية تُدار بوساطة ضباط كلّفتهم حكومة فائز السراج التي اعتمدت على بند الطوارئ في الصرف عليهم بسخاء، ما أدّى إلى المبالغة في كشوفات أعداد هؤلاء الجنود، والذي انعكس، أخيرا، في المبالغ التي طالبت بها رئاسة أركان "المنطقة الغربية" ديونا مستحقة مقابل خدمات الإعاشة والتموين، والتي وصلت إلى مائة مليون دينار خلال بضعة أشهر.
تحوّل الجنوب الليبي إلى مسرحٍ لنشاط العصابات الإجرامية والتنظيمات الإرهابية، ومنفذ لعصابات التهريب والاتجار بالبشر
دفعات متعاقبة، وترقيات "استثنائية" لضباط من دون أعمال أو واجبات حتى "عادية"، وأعداد أخرى اكتفت من الجيش بزيّه المموّه، لتمارس به سلطتها وسطوتها واستفزازها للمواطن داخل المدن، وتركزت معظمها في بنغازي وطرابلس وبعض المدن الساحلية، في تجاهل كامل للجنوب الليبي الذي يبدو أن حرارة طقسه التي لا تطاق، ورماله المتحرّكة، وبعده عن البحر، وصعوبة تضاريسه، جعلته خارج حساباتهم، ليتحوّل إلى مسرحٍ لنشاط العصابات الإجرامية والتنظيمات الإرهابية، ومنفذ لعصابات التهريب والاتجار بالبشر، في الوقت الذي انشغل الجيش (المزعوم) بمفاوضات شاقة من أجل فتح الطريق الساحلي بين مصراتة وسرت، وإزالة الألغام التي زرعها كل طرفٍ لإعاقة تقدّم الطرف الآخر.
ونتيجة هذا الإهمال، شهدت مدينة سبها في الجنوب الليبي، الأسبوع الماضي، تفجير بوابة أمنية، أودت بحياة رئيس فرع جهاز البحث الجنائي، إبراهيم عبد النبي، وضابط آخر، وأصيب بعض حراسات بوابة مفرق أبناء المازق. وقد تبنّى تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) التفجير، ودانه على استحياء بعض قادة "الجيش" الذين نسوا أو تناسوا أن تأمين تلك المنطقة وغيرها من ضمن مسؤولياتهم، وأن ارتداء الأنواط والنياشين العسكرية وبدلات التشريف، وحضور الاستعراضات العسكرية، والحرص على الظهور في المنصّات الرئيسية، لا يمكن أن يحافظ على حدود، أو ينتصر على عدو، أو يحمي وطنا. لم يكن التفجير الأول، وإذا استمرت الأوضاع كما هي، لن يكون الأخير، فهذه المجموعات الإرهابية وغيرها وجدت، في الوضع الأمني الهش، وغياب الدولة الكامل، والإهمال الكامل للجنوب الليبي من كل الحكومات المتعاقبة، المناخ المناسب لتمارس هوايتها المفضلة في القتل والتفجير، وبكل أريحية، مكونة شبكاتٍ تمتد بين دول الساحل والصحراء، مهدّدة المنطقة بكاملها، وليس ليبيا فقط.
هل يكون هذا التفجير سببا في إدراك الجميع الخطر الذي تشكله هذه المجموعات الإرهابية، والتي تستهدف استقرار البلاد؟ خطر لا يمكن مواجهته إلا بتضافر الجهود وتوحيدها، أم أن ردة الفعل ستكون كسابقتها، تبادل اتهامات، ومحاولة لاستغلال هذه المآسي لتحقيق مآرب سياسية ضيقة، وهل ستهتم المؤسسة العسكرية بحماية كل تراب الوطن، أم أن اهتمامها سيكون منصبّا على الشرق والغرب، أما الجنوب فله رب يحميه؟