جنوب أفريقيا تنتصر على إسرائيل
حقّقت المداولات الجارية في محكمة العدل الدولية بشأن الدعوى المقدّمة من جنوب أفريقيا، التي تتهم إسرائيل بارتكاب جريمة إبادةٍ جماعيةٍ في حربها على غزّة، عدّة إنجازاتٍ مهمّة، فهذه من المرّات القليلة التي تخضع فيها إسرائيل للمساءلة القانونية من أعلى هيئة قضائية دولية على أفعالها وجرائمها خلال شنّها حرباً مسعورةً على القطاع منذ أكثر من ثلاثة أشهر.
كما كان من المهم جداً، في سياق الأدلّة التي قدّمها طاقم محامي جنوب أفريقيا، أن يسمع العالم كله التصريحات التي أقلّ ما يقال فيها إنها تشجع على الانتقام الأعمى والتدمير، والتي جاءت على لسان قادةٍ من المنتظر أن يكونوا أكثر رصانة، مثل رئيس الدولة يتسحاق هرتسوغ، وليست صادرة عن شخصياتٍ تنتمي إلى المعسكر المسياني المتطرّف الذي بدأ منذ اليوم الأول للحرب يخطّط لترحيل الفلسطينيين طوعاً أو قسراً وبناء المستوطنات اليهودية في غزة من جديد.
الانجاز الثاني، حالة الخوف والهلع التي انتابت إسرائيل على جميع المستويات الرسمية والحزبية والاعلامية. فجأةً رأت إسرائيل نفسها في مواجهة جبهة حربٍ جديدة لم تكن تنتظرها. وجاء الرد الإسرائيلي عليها من خلال حملة شعواء استهدفت جنوب أفريقيا، واتهامها بالعداء للسامية وبأنها ألعوبة في يد إيران و"حماس"، وأن الذي يحرّكها هو السلطة الفلسطينية. وهناك من ذهب أبعد من ذلك، واتهم جنوب أفريقيا بالجحود ونكران الجميل، متسائلاً لماذا جنوب أفريقيا تكرهنا؟ نسي الإسرائيليون ربما أن دولتهم كانت آخر الدول التي قطعت علاقتها مع نظام الفصل العنصري الأبيض في جنوب أفريقيا، حفاظاً على مصالحها الاقتصادية، ولأن النظام الأبيض في جنوب أفريقيا كان الوحيد بين الأنظمة الأفريقية الذي لم يقطع علاقاته بإسرائيل بعد حرب 1973. ومنذ سقوط نظام الفصل العنصري في 1994، واستلام "المؤتمر الوطني الأفريقي" الحكم، أخذت جنوب أفريقيا مواقف معادية لإسرائيل على الصعيد الدولي، وصوتت إلى جانب الفلسطينيين في الأمم المتحدة. ولطالما رأت في نضال الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال الإسرائيلي وجهاً من وجوه نضالها هي ضد الاستعمار الأجنبي ونظام الفصل العنصري. وهي أكثر من غيرها قادرة على فهم الجحيم الذي يعيش فيه الفلسطينيون، سواء في الضفة الغربية أم في غزّة أم القدس الشرقية، بسبب السياسات الاستعمارية والعنصرية.
وصفت جهات إسرائيلية كثيرة ما يجري في محكمة العدل الدولية "بالتقصير" الرابع لحكومة نتنياهو، يضاف إلى التقصير الاستخباري والعسكري والحكومي
ترافق الهجوم على جنوب أفريقيا مع الحملة الإسرائيلية على محكمة العدل الدولية بحد ذاتها واتهامها بالنفاق والرياء، والتشكيك بصدقيّتها بسبب وجود قاضٍ لبناني وآخر من الصومال بين قضاتها. ورأينا معلقاً إسرائيلياً ينتفض مستفظعاً كيف يمكن لقاضيين ينتميان إلى "دولٍ فاشلة" مثل لبنان والصومال أن يسائلا ويشاركا في النظر والحكم على أفعال إسرائيل. وهكذا كشفت مداولات محكمة العدل العليا الوجه المقيت الاستعلائي لإسرائيل وعقدة التفوّق اليهودي.
ومن بين الإنجازات المهمّة الأخرى لمداولات محكمة العدل الدولية، أنها أدّت إلى تصفية الحسابات الداخلية في داخل إسرائيل. وصفت جهات إسرائيلية كثيرة ما يجري في محكمة العدل الدولية "بالتقصير" الرابع لحكومة نتنياهو، يضاف إلى التقصير الاستخباري والعسكري والحكومي. واتهم أكثر من طرفٍ إسرائيلي حكومة نتنياهو بعدم المسؤولية، وعدم ايلاء الاهتمام الكافي للتصريحات الرسمية التي صدرت عن وزراء فيها، وعدم الانتباه إلى الضرر الناتج عن تصريحاتٍ تدعو إلى قتل كل سكان غزّة، أو ترحيلهم فقط، لكونهم يعيشون في غزّة، وأنهم أولياء مقاتلي "حماس" وأمهاتهم وأولادهم وربما أحفادهم، ولذلك هم ضالعون، بصورةٍ أو بأخرى، في القتال ويجوز استهدافهم.
ما تحقّق أهم إنجاز لانصاف الفلسطينيين في غزّة منذ نشوب الحرب، وأكبر وصمة عار ستلحق بإسرائيل
وما لا يقلّ أهميةً ما قاله أحد الصحافيين الإسرائيليين عن أن دعوى جنوب أفريقيا نجحت في "اختراق الوعي" الإسرائيلي، فالمواطن الإسرائيلي الذي كان يصدّق سردية واحدة، هي السردية الرسمية الإسرائيلية التي صوّرت الحرب في غزّة "وجوديةً" دفاعاً عن جوهر وجود إسرائيل في هذه المنطقة، وحرب "الحضارة" ضد "التوحش"، ناهيك عن طغيان النبرة القومية العنصرية المتطرّفة، هذا الجمهور الخاضع تماماً لما ترويه وسائل الاعلام الإسرائيلية المجنّدة في خدمة الأهداف التي وضعتها إسرائيل لحربها على غزّة، يجد نفسه الآن مع نقل مداولات محكمة العدل الدولية في وسائل الإعلام الإسرائيلية أمام الوجه الآخر من الحقيقة التي أخفوها عنه. هذا الجمهور الذي صورت له الدعاية الإسرائيلية هجوم 7 أكتوبر "محرقة جديدة" وحوّلت المنازل المدمّرة في مستوطنات غلاف غزة إلى مزار ومتحف جديد يحجّ إليه الزوار الأجانب من رسميين وعاديين ليروا بأم العين "وحشية" ما جرى، وكل السرديات الأخرى التي جرى تلفيقها، وهدفت إلى حجب الحقيقة المروّعة التي تجري في غزة عنه، هو الآن أمام مشهدٍ مختلفٍ للحقائق، وذلك كله بفضل ما قامت وتقوم به جنوب أفريقيا.
وسواء أصدرت محكمة العدل الدولية أمراً بوقف إطلاق النار فوراً أو لم تفعل، وسواء نجحت جنوب أفريقيا في إثبات نية إسرائيل ارتكاب إبادة جماعية أم لم تنجح، فما تحقّق أهم إنجاز لانصاف الفلسطينيين في غزّة منذ نشوب الحرب، وأكبر وصمة عار ستلحق بإسرائيل، ودرس لكلّ دولة غاشمة تتذرع بالدفاع عن نفسها لتحقق مخطّطات إبادة شعب، وحرمانه من حقه في العيش الكريم في أرضه.