جمهورية الحرس
تسترعي الاحتجاجات التي تشهدها إيران منذ بضعة أسابيع، إثر مقتل الشابة الإيرانية مهسا أميني، على يد قوى الأمن، في مسألة الحجاب، اهتماماً كبيراً، وهذا طبيعي نظراً لأهمية إيران، ووزنها الإقليمي، وتأثير أي تطور داخلي فيها على سياستها الخارجية، المثيرة للجدل. وما يعطي الاحتجاجات الراهنة أهمية أكبر هذه المرّة، خلاف دور المرأة فيها، واتساع رقعتها، وانتشارها من المركز إلى الأطراف، ودخول نخب فنية ورياضية على خطّها، تزامنها مع أنباء عن اشتداد مرض المرشد، علي خامنئي، وتزايد التكهنات المتصلة بمسألة خلافته، خصوصاً مع عودة ابنه، مجتبى، إلى دائرة الضوء أخيراً، في وقت تتعثر فيه المفاوضات بشأن إحياء الاتفاق النووي. ومن بين كل مراكز القوى داخل النظام، تتركّز الأنظار، وسط هذه الظروف، على "الحرس الثوري"، الذي تحوّل، خلال العقدين الأخيرين، إلى العمود الفقري للنظام، وصاحب الكلمة العليا في سياسة إيران الإقليمية، وفي عملية ضبط الأمن الداخلي فيها، بشهادة وزير خارجية إيران السابق، جواد ظريف، والتسريبات الصوتية لرئيس وزراء العراق السابق، نوري المالكي.
تأسّس الحرس الثوري في مايو/ أيار 1979، بعد شهور على انتصار "الثورة"، وجرى تحديد الهدف من إنشائه بحماية النظام من خصوم الداخل والخارج. وعلى الرغم من دوره المحوري في الحرب مع العراق (1980-1988)، فإن آية الله الخميني لم يسمح له بتجاوز وظيفته الرئيسة، لإبقاء المؤسّسات العسكرية بعيدة عن السياسة. لكن الأمر تغير تدريجياً في عهد علي خامنئي، الذي تزايدت حاجته لدعم الحرس بعد تحدّي آية الله منتظري سلطته عام 1997، ثم انتفاضة الجامعات عام 1999، وفي قمع "الثورة الخضراء" بعد عقد. وفي مقابل ولائه المطلق لشخصه، كافأ خامنئي الحرس، بسماحه له بدخول الحياة الاقتصادية، فصارت له شركاته ونشاطاته الاقتصادية المستقلة، ومصادر دخله الخاصة، وبرز خصوصاً دور الموانئ التي يسيطر عليها الحرس، ويصدّر من خلالها النفط أو يمارس التهريب بأنواعه ويستأثر بعائداته.
وتتفاوت التقديرات بشأن حصة الحرس من الاقتصاد الإيراني؛ فوفقاً لإحدى الدراسات، يستحوذ الحرس على ما يربو على 50% منه. ووفقاً لدراسة أخرى استحوذ الحرس على نحو 80% من مجمل الشركات الحكومية التي جرت خصخصتها في ولاية أحمدي نجاد الأولى (2005 - 2009) بما فيها مؤسسة التأمين الاجتماعي. ونتيجة تحكّمه بنصف الاقتصاد، صارت للحرس شبكات دعم اجتماعية خاصة به، كما تشكّل من حوله شبكة علاقات زبائنية، ارتبطت بها ملايين الأسر الإيرانية. فوق ذلك، صار للحرس دور مهم في الحياة السياسية عن طريق تبوّء قادة سابقين فيه مناصب رسمية رفيعة، ففي ولاية أحمدي نجاد الثانية (2009-2013) مثلاً كان نصف مجلس الوزراء ضباطاً سابقين في الحرس الثوري، في حين جرى تعيين ضباط متقاعدين آخرين حكّاماً لولايات أو مديرين لشركات ومؤسّسات حكومية. ومن المسؤولين البارزين حالياً رئيس البرلمان محمد باقر قاليباف، ووزير المواصلات قاسم رستمي، وكلاهما ضابطان سابقان في الحرس. ويشغل عدد من ضباط الحرس السابقين مناصب استشارية في مكتب المرشد، بمن فيهم حسين طايب، الرئيس السابق لجهاز استخبارات الحرس، الذي جرت إقالته أخيراً بسبب فشله في إحباط عمليات استهدفت برنامج إيران النووي، ومسؤوليته عن عملية استخبارية فاشلة في تركيا.
يعمل الحرس باستقلالية عن الجيش، ويملك قواتٍ جوية وبرّية وبحرية موازية له (يقدّر عددها بنحو 250 ألف مقاتل) إنما بتسليح وامتيازات أفضل (يضاف إليها قوات الباسيج المقدّرة بنحو 90 ألف عنصر). فوق ذلك، يسيطر الحرس على برنامج إيران النووي وبرنامج صواريخها البالستية، وعمليات تصنيع طائراتها المسيّرة، ويعمل خارجياً، كما أشار محمد ظريف في شهادته المسرّبة، باستقلال تام عن الحكومة، خصوصاً في أثناء قيادة قاسم سليماني فيلق القدس، مستفيداً من تواصله المباشر مع المرشد.
ونتيجة الإمكانات التي يمتلكها في مجالات الأمن والاقتصاد والإرشاد، يميل كثيرون إلى الاعتقاد بأن الحرس بات يمسك فعلياً بكل مقاليد السلطة في إيران. وهذا يعني أن نظام "توازن القوى" الذي أنشأه الخميني بين الحكومة (الرئاسة) والبرلمان والسلطة القضائية ومجلس الخبراء ومجلس صيانة الدستور ومجلس تشخيص مصلحة النظام، لم يعد موجوداً. ومع الغياب المرتقب للمرشد الحالي، الذي ما زال يتمتع بسلطة عليا في الدولة، تكون إيران قد طوت فعلياً صفحة "حكم الملالي"، ودخلت عهد "جمهورية الحرس".