جلْجلة أهل غزّة هي الأساس... القضية الآن
اصبحت صورة إسرائيل في العالم في الحضيض. طلّاب الجامعات الأميركية، والأوروبية بدرجة أقلّ، أشهر من أسهم في هذا الانحدار، بينهم تنظيمات يهودية أميركية، كان لها الفضل في الفصل بين اللاسامية وإدانة إسرائيل. شارك الجميع في انتفاضة الجامعات للمطالبة بوقف تعامل جامعاتهم مع إسرائيل، بفكّ الحصار والتجويع، بوقف الحرب في غزّة، تشعلهم الأخبار القادمة من يوميات جحيم أهلها. وكلما فتكت إسرائيل بأولئك الأهل، أعلوا شعار "فلسطين حرّة"، ونشروا صداه وسط العالم، تليهم حكوماتهم.
الأميركي بايدن مثلاً، بعتابه المُهذّب بداية، ثم الجافّ، ثم بتهديدات بقطع دفعات من السلاح إلى إسرائيل، لأنّها تقتل من الغزّيين "أكثر من اللازم"، بالضغط على نتنياهو، بوقف جموحه، بتحذيره من اجتياح رفح. والمحكمة الدولية، الجنوب أفريقية، تجدّد للمرّة الرابعة مرافعاتها ضدّ إسرائيل لمطالبتها بوقف تجويع الغزّيين وقتلهم، وتهجيرهم من نقطة إلى أخرى. ومؤسّسات الأمم المتّحدة تثابر على نعي الحياة في غزّة، على المطالبة بفتح المعابر، على توقيف أنشطة مجموعات اليمين الديني المُتطرّف الإسرائيلية، التي تحرق شاحنات المساعدات، تضرب سائقيها، وتعبث بمحتوياتها. "يونيسف"، مثلاً، تبثّ الأشرطة بانتظام، يتكلّم مديروها من قلب غزّة، بعضهم يبكي، يمسك دموعه، لا يصدق هول ما يصِف. وينسحب هذا كلّه على الحياة الديبلوماسية العالمية، التي تخزي جبين إسرائيل بارتكاباتها. بعضهم يبحث عن مبرّر لها، والغالبية لا تستطيع إلا الإدانة، إلا وضع جلْجلة أهل غزّة في قائمة أجندتها، حتّى لو افتعالاً، أو مشهداً، أو رفعاً للعتَب. وكُتّاب، وباحثون، وروائيون، ومؤرخون، وشعراء، معظمهم غربيون، يوقّعون الرسائل المشتركة، يطلقون الكلمات المُؤثّرة، يغضبون على إسرائيل وجرائمها في حقّ أهل غزّة. ويكشفون التاريخ الفلسطيني الذي كان محجوباً. آخرهم، الشاعر الأميركي كريس هدْجز الذي ألقى قصيدةً في افتتاح حفل جوائز هوليوود للأوسكار، هذا العام. قصيدةً موجعةً عن أطفال غزّة، أبكت الحاضرين من النجوم، وأمسك هو دموعه بغية استكمال قصيدته. وقبيل ذلك، المُمثّل الأميركي مارك روفالو، المُشارك في الحفل نفسه، يسير على السجادة الحمراء صارخاً في وجه المصوّرين "فلسطين حرّة ... فلسطين حرّة".
ألا يستحقّ أهل غزّة أن يتحدّث إليهم قادة "حماس" بشأن كلّ كبيرة وصغيرة، من دون تجميل الواقع ومن دون الهروب من المسؤولية؟
أما الإعلام الغربي، فذهب إلى أبعد من ذلك. خذ ْمثلاً واحداً؛ قناة "تي في توك" البريطانية، ونجم مقابلاتها بيرس مورغان. هل تذكرون؟ غداة اندلاع "الطوفان"، كان مورغان يفعل ما هو متعارف عليه وقتها في هذا الإعلام، أي؛ سؤال الضيف، خصوصاً إذا كان عربياً، عن رأيه في عملية "حماس"؛ "الطوفان". هل كانت إجرامية أم لا؟ منتظراً منه الإجابة الدارجة وقتها "نعم إنهم مجرمون" (!). وقد اشتهر من بين الضيوف باسم يوسف، الذي أجابه، بعد إلحاحه مرتيْن أو ثلاث، بما تجاوز ملايين المشاهدات، لشدّة سخريته من عبثية سؤاله. في الأمس، استضاف مورغان الناطق الرسمي باسم الحكومة الإسرائيلية آفي هيمان، وكان إلحاحه مقلوباً، إذ كان سؤاله: "أنتم تعرفون العدد الدقيق من أعضاء حماس من الذين قتلتم. فهل تعرفون عدد المدنيين الذين قتلتم في غزّة؟"، فيكون جواب المسؤول الإسرائيلي أنّه "لا يعرف"، ولا حكومته تعرف. ألحّ مورغان، وأعاد السؤال مرتيْن وثلاث، واستنتج بصيغة السؤال: "أنت ناطق رسمي باسم الحكومة الإسرائيلية، وليس لديك فكرة عن عدد المدنيين الذين قُتِلوا بأيدي حكومتك؟ كنتُ معتقداً في البدء أنّك جئت لتقول إنّكم تهتمون بشكل خاص بحياة المدنيين، ولكنك لا تعرف عدد المدنيين الذين قتلوا على أيدي حكومة أنت الناطق الرسمي بها. وإذا كنت لا تعرف كيف قتلت عدداً كبيراً من المدنيين في غزّة، فكيف يمكن لك القول إنك تهتمّ بمصير المدنيين؟".
هذا هو صوت العالم، بنُخَبِه وحكوماته وطلّابه وإعلامه وشبابه، وكلّ ما يطلع منه هو جلْجلة أهل غزّة؛ الأطفال، النساء، الخدّج، الخيم، الهروب، الجوع، العراء، الدمار، الغبار... هي الصور التي غزت العالم وجعلت مدنيي غزّة الموضوع. لولا الوحشية الإسرائيلية وردّة الفعل الثأرية لبنيامين نتنياهو على "الطوفان"، لولا كارثيتها الإنسانية، هل كان صوت العالم سينفجر وتحتلّ غزّة صدارة اهتمامه، إذ صارت شعاره الأوحد؟ إذ أصبحت تغطّي أهوال أهل الضفّة الغربية والقدس الشرقية، وفلسطينيي الداخل، ومُخيّمات الدول المجاورة؟
لولا الوحشية الإسرائيلية وردّة الفعل الثأرية لنتنياهو على "الطوفان"، لولا كارثيّتها الإنسانية، هل كان صوت العالم سينفجر وتحتلّ غزّة صدارة اهتمامه؟
في المقلب الآخر، من جانب أهل غزّة، ماذا يقولون؟ الفيديوهات والمنشورات والمقابلات مع بعضهم تتشابه، وجميعها لشباب من غزّة، قليل من النساء. إليكَ بعضاً من كلماتهم، ومن دون ذكر أسماء: كلّهم يُجمعون على الفكرة التي باتت منتشرة أنّ "حماس" لم تهيئ الغزّيين لهكذا انقضاض إسرائيلي على قطاعهم. هل قامت "حماس" بتأمين الجبهة الداخلية من الملجأ والغذاء والصحّة؟ هل كانت "حماس" تجهل ما سينجم عن عملية 7 أكتوبر (2023)؟ هل تتّسع الانفاق لحماية أهل غزّة، أيضاً، ليحتموا فيها؟ هل تتحمّل "حماس" مسؤولية ممارسات "عناصرها غير المُنضبطة" بالاستيلاء على هذه المساعدات الآتية من الخارج؟ ألا يستحقّ أهل غزّة أن يتحدّث إليهم قادة "حماس" بشأن كلّ كبيرة وصغيرة، من دون تجميل الواقع ومن دون الهروب من المسؤولية؟ هل تتخلّى "حماس" عن "بلاغتها الإعلامية، التي لا تُغيّر شيئاً عند النازحين في الخيام، وعند أهالي الشهداء، وعند الأطفال المصابين، وعند مجتمع كامل فقد كلّ شيء في حرب لا تزال مستمرة؟... أسئلة يطرحها أولئك الغزّيون الشباب من دون إجابات حتّى الآن، لماذا نُقتل الآن؟ ما السبب؟ وإذا كنّا في معركة تحرير، فأين ملامحها؟ من وجّه هذا "الطوفان" ومن أعطى التعليمات لتنفيذه؟ ما هو مصير قطاع غزّة الذي أصبح غير قابل للحياة؟ ما الذي يجب أن يفعله مليون و300 ألف إنسان حوصروا في منطقة جغرافية كانت تعتبر مكتظّة عندما كان يسكنها أقلّ من 200 ألف نسمة؟ هل تفاعلت "حماس" مع احتجاجاتهم؟
نعم يجيبون. بلسان قياديين حمساويين، وعلى امتداد المعركة طوال أشهر الحرب. إذ يصرّون على أنّ تحرير فلسطين يستحقّ "هذه التضحيات كلّها". وبعد ذلك، في نهاية شهر مارس/ آذار الماضي، أصدرت "حماس" بياناً على "تليغرام" تكرّر قرارها الاستمرار في الحرب التي ستوصل إلى "النصر والحرّية للفلسطينيين"، شاكرةً بشكل خاص أهل غزّة، مُعترفة بـ"إرهاقهم". التعليق على هذا "الاعتذار" بلسان الشباب: لم تلحقه أيّ إجراءات لوقف التجاوزات، لتنظيم المساعدات، لحماية أهل غزّة... إلخ. كيف يمكن تصديق كلّ هذه الأقوال؟ كيف يمكن أن نقيس حجمها؟ أو مدى انتشارها؟ فيما لا الظروف الطارئة ولا خلفيات وسوابق حماس تيسّرها؟ بالانتخابات؟ باستطلاعات الرأي؟ وهل يكون أهل غزّة بكامل استعدادهم لخوض واحدة من الاثنتيْن؟ فيما هم يرتحلون، يتشرّدون، يجوعون، يعطشون، يموتون من دون حساب، وأولويتهم الحدّ الأدنى من البقاء على قيد الحياة أو الموت؟ ويبشرّ قادتهم بأنّ القادم من الأيام سيكون معركة "استنزاف طويلة"، استناداً إلى "التضامن العالمي غير المسبوق"؟ ... فتكون المعادلة الظالمة: إنّ جلْجلة أهل غزّة هي الأساس، وهي الوقود الشاحن لحرب ستستنزفهم، ولا يحصلون منها لا على صوت ولا على قرار، ولا على أملّ بالحياة أو بمثوىً أخير.