جسد كيرفي وشفاه ممتلئة
في حوار تلفزيوني معها شوهد أخيراً، قالت الممثلة الأميركية كاميرون دياز إنها منذ ابتعدت عن "هوليوود" في عام 2015 وهي تشعر أنها استعادت نفسها، ولم تعد تهتم بما يبدو عليه شكلها، فهي "نادراً الآن ما تغسل وجهها، رغم مئات من أفخر أنواع علب الكريمات التي تملكها". و"من الصعب ألا ينظر المرء إلى نفسه ويحكم عليها وفق معايير الجمال الأخرى". والحال أن كاميرون دياز تلخّص في حديثها هذا معضلةً حداثيةً تعاني منها النساء والفتيات في عصرنا الحالي: كيف يمكن أن أبدو جميلة دائماً، وكيف سأتغلب على قوة الزمن، وكيف سأحافظ على مكانتي القريبة من معايير الجمال.
ليس سهلاً النجاة من تنميط الجمال الأنثوي، حين تكون الأنثى محاصرةً بكل ما يجعلها أسيرة قواعد تحدّد ملامح الوجه المثالي وخطوطه، ومقاسات الجسد المثالي للمرأة وشكله. عشرات الإعلانات الجديدة اليومية تظهر على وسائل الإعلام ووسائط الاتصالات الحديثة تضع صور نجمات سينمائية أو تلفزيونية أو عارضات أزياء أو نجمات تلفزيون الواقع مرفقة بمنتجٍ ما، كل ما على الأنثى المستهدفة من الإعلان فعله هو الضغط على زر الشراء ثم سيتحقق لها حلم الجمال وما يفتحه ذلك من أبواب، سواء في الشهرة أو في العمل أو في الزواج من رجل أعمال أو ثري ما، فالجمال كفيلٌ بفتح كل الأبواب المغلقة، هكذا يجري ترويج منتجات جمالية أو تنحيفية أو لعيادات تجميلية، أو حتى لوصفات بيتية مخصّصة لنساء الطبقتين، المتوسّطة والفقيرة.
لا ينطبق الأمر على الرجال. نادراً جداً ما نعثر على إعلان جمالي موجّه إلى الرجل، قد نجد أحياناً إعلاناً عن منتج لإنبات الشعر المفقود (أصبحت قليلة أخيراً مع موضة الرأس الحليق تماماً) أو آخر لاسترداد القدرة الجنسية التي تضعُف مع التقدّم في السن، إعلانات لا تضع معايير لشكل الرجل، ولا تهتم بهذا المنحى، فما يهم الرجل ماله وقدرته الجنسية. ليس هذا في مجتمعاتنا فقط، بل يكاد يكون ظاهرة بشرية عامة. وبالتالي، لا توجد أبواب مغلقة أمام الرجل، سيفتحها منتج ما، شكل الرجل ووزنه وتفاصيل جسده ليست عائقاً أمامه إلا لو كان مصاباً بتشويهٍ ما، لا أحد يتنمّر على شكل الرجل، ولا أحد يعيب عليه ترهّل بطنه ولا تهدّل وجهه ولا تجاعيد الزمن حول فمه، لا يمنعه ذلك من الحصول على وظيفةٍ مهمة، ولا من دخول مجالاتٍ لا يمكن لامرأة لا تتمتع بمواصفات محدّدة أن تدخلها، كالعمل في مجالات الإعلام المرئي، أو العمل في مهنة التمثيل.
كل النضال النسوي عبر التاريخ استطاعت الرأسمالية واقتصاد السوق صرف النظر عنه عبر استخدام المرأة سلعةً إعلانية لترويج منتجات استهلاكية تحقّق أرباحاً لمنتجيها وتجعل المرأة أسيرة نمط شكلاني محدّد، يزيد في إحساسها بالنقص وبفقدانها أمان الرضا عن الذات، والاكتفاء بما حققته لتكون شخصيةً مستقلةً ومبادرة وحرّة وفاعلة على كل المستويات، خصوصاً في مجتمعاتنا الممعنة أصلاً في تهميش المرأة وتمييزها لصالح الرجل. واللافت هو خضوع المثقفين/ ات لشروط السوق التنميطي، حيث يتورّط كثيرون منهم/ ن في استعراضات التنمّر على النساء اللواتي لا يطابقن معايير الجمال الموضوعة، خصوصاً في حالة الخصومة السياسية والثقافية، حينما تفقد الثقافة جزءاً كبيراً من رصانتها لصالح الشعبوية والغوغائية التي تُمعن في تهميش المرأة وتحطيم ذاتها وكينونتها، محطمةً معها الأسس التي يبنى عليها توازن المجتمعات. حدث هذا كثيراً خلال السنوات العشر الماضية مع الربيع العربي والانقسامات السياسية الحادّة، سيما مع انتشار وسائل التواصل وسهولة استخدامها وتحولها إلى منابر بديلة لمثقفين عربٍ كثيرين.
قلة من النساء من يمكنها التفاخر بأنها نجت من شرك التنميط الشكلاني ومواصفات الجمال، غالبيتنا نسعى جاهدات إلى أن نبدو كأقرب ما نكون لتلك المواصفات، وهو ما جعل الأمر يشبه الدائرة المغلقة، حيث نحاصَر بتلك الإعلانات المروّجة منتجات الجمال واختراعاته، فنسعى إلى اقتنائها رغبةً في الوصول إلى الشكل المثالي والشباب الدائم، ما يجعل منها سلعة مرغوبة ومطلوبة وسريعة النفاد. هكذا يزداد طرحها في الأسواق، ويزداد ربح منتجيها مثلما يزداد عدد النساء والشابات المنتظرات في عيادات التجميل وصالوناته التي يخرجن منها، وهن يملكن الملامح نفسها والشكل نفسه: جسد "كيرفي" على طريقة كيم كاردشيان، وشفاه ممتلئة وخدود مرفوعة وعيون مشدودة على طريقة هيفاء وهبي.