جريرة فايدة حمدي

25 ديسمبر 2015

فايدة حمدي: أنا التي صنعت هذا التاريخ (7 ديسمبر/2011/أ.ف.ب)

+ الخط -
أمّا الجريرةُ في معاجم العربية فهي الجناية والذنب. وفايدة حمدي هي الموظفة في بلدية سيدي بوزيد التونسية، والتي شاع أنها صفعت محمد بوعزيزي، فأحرق نفسه، فاشتعلت ثورةٌ في تونس، ثم نشبت ثوراتٌ في غير بلدٍ عربي، ثم صارت الوقائع المعروفة. ولكن، حُبست حمدي أربعة شهور، ثم لم يثبت، في محاكمتها، أنها ارتكبت تلك الإهانة الجارحة للشاب، في شارعٍ عام في رابعة النهار، لمّا حاولت، مع زميليْن لها، منعَه من بيع الكمّثرى على عربته، لأنه لا ترخيص لديه بذلك. قالت فايدة، عقب الإفراج عنها، إن كل ما فعلته أنها صادرت الميزان من على العربة، فغضب بوعزيزي، وحاول استرداده منها، ولمّا عجز، جذبها بقوةٍ من الشعار المهني في زيّها الرسمي، ما أحدثَ جرحاً بسيطاً في يدها، فطلبت حماية الشرطة، فأبلغها إحساسَه بالقهر من تركيز البلدية عليه، وأنه تم التحفظ عليه قبل شهور، ثم ركض إلى مبنى البلدية، وعندما امتنع موظفون فيها من سماع شكواه، أحرق نفسه.
هذا ما روته فايدة حمدي، قبل أزيد من أربع سنوات، وصدّقته المحكمة، بعد الاستماع إلى خمسة شهودٍ أكّدوا كلامها، وبعد معايناتٍ مدققة. لا صفعة في القصة الرسمية هذه ولا يحزنون، غير أنه كان ضرورياً أن تشتمل القصة الشائعة على صفعة، لتغدو هذه الموظفة رمزاً لسلطة بن علي المتجبّرة، وليكون لاشتعال الثورة محمولٌ يحيل إلى هذه السلطة المرذولة، مع أن الموظفة المُدانة لم تفعل غير تطبيق القانون. توطّنت القناعة بأن محمد بوعزيزي، في إشعاله النار في بدنه، أشعل شرارةً في تونس والعالم العربي، لكن فايدة حمدي تدردش معها صحيفة ديلي تلغراف البريطانية، بمناسبة ذكرى الثورة التونسية، في 17 ديسمبر/كانون الأول الجاري، وتقول "أنا التي صنعت هذا التاريخ، لأنني التي كانت هناك، وما فعلته هو السبب في هذا الحال". ولكنها لا تقول هذا بزهو، بل بندمٍ شديد جداً، كما تصفه بنفسها، "لأن التونسيين يعانون"، على ما تبلغ الجريدة. تؤنّب نفسها، بسبب شعورها بمسؤوليةٍ كبرى عن "الموت الذي في كل مكان"، وعن "التعصب الذي ينتشر ليحصد أرواح الناس الطيبين". تقول إنها تراقب ما يجري حولها في المنطقة وفي تونس، وترى ذلك كله.
سيكون من البلاهة السجال مع فايدة حمدي، لإقناعها بأنه ما هكذا تورَد الإبل، بل تورَد بمنطق ثوراتٍ تقوم بها شعوبٌ، يتطلعون إلى تجاوز أحوالهم، حين يُغالبون الاستبداد ونقصان العدالة والكرامة، وتواجِه ثوراتِهم ثوراتٌ مضادّة، تنشط فيها قوى متضرّرة من تحقيق هذه الشعوب أشواقها هذه، وقد تنجح بمنسوبٍ قليل أو كثير. هذا موجز ما جرى ويجري، منذ ظهيرة ذلك النهار، في محطة سيارات الأجرة في سيدي بوزيد، لمّا صادرت فايدة حمدي ميزان الكمثرى. ولا صلة للوقائع العربية التي تدحرجت بمسؤولية موظفةٍ متواضعة المكانة عنها، ولا بعود الثقاب الذي أخذ ذلك الشاب التونسي إلى المستشفى محروقاً، وقبل أن يودّع الحياة، يزوره هناك بن علي، في استثمارٍ شعبوي مكشوف.
من مفارقاتٍ ظاهرةٍ أن فايدة حمدي تُعلن ندمها البالغ عن جريرتها، لكنها تُشاهَدُ في احتفالات مواطنيها التونسيين بالذكرى الخامسة للثورة. والظاهر أنها، حين تعمد إلى انتزاع المكانة التي توطّنت لمحمد بوعزيزي، فتجهر بالقول إنه، لولا مشادّتها معه، لمّا صار ما سمّيناه الربيع العربي، إنما تشير إلى وجوب عدم إغفال دورها الشخصي في هذا المنعطف الكبير، وإنْ تندم عليه، وإنْ وقع فيه الموت والتعصب اللذان تحدّثت عنهما. ولكن، هل يتم تأريخ التاريخ هكذا؟ وإذا تمادينا في بيزنطيةٍ ذهنيّةٍ: لو لم تقع واقعة ميزان عربة الكمثرى في سيدي بوزيد، هل كان بن علي سيطير إلى السعودية، ويصير محمد مرسي رئيساً، بعض الوقت، وترتفع بيارق داعش، وينبطح بدن معمر القذافي ميتاً للفرجة؟ هل في سؤالٍ كهذا منطقٌ ما، أم أنه محضُ استرسالٍ في غير محله، استدعاه استهجانٌ، هنا، لشعور امرأةٍ منسيةٍ بأنها صنعت تاريخاً .. وأيّ تاريخ؟
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.