جديد محمد كامل الخطيب
صدورُ كتابٍ جديد، أو طبعة جديدة من كتاب قديم للسوري محمد كامل الخطيب، أمرٌ غير مفاجئ، فنحنُ أمامَ كاتبٍ في السادسة والسبعين من عمره، مستمرٍّ في الإنتاج الأدبي والفكري، وبغزارةٍ، منذ أزيد من نصف قرن، بالإضافة إلى أنّه ما يزال منشغلاً بقضايا النهضة العربية، وحواراتها، وسجالاتها الفكرية، ورَصْدِ التحوّلات التي طرأت على المجتمعات العربية، صعوداً وهبوطاً، نجاحاً ونكوصاً، وتدوينِها، وتحليلِها، وتوثيقِها.
صدر، قبل أيام، الجزء الثاني من كتاب "تكوين النهضة العربية"، تحت عنوان "النهضة والإخفاق- مئتا عام من العذاب" (دار 0021، بيروت، 2024)، الذي يرصد فيه التقلبات في البلاد العربية بين عامي 1800، و2000. وكان هذا الكتاب قد صدر ضمن المشروع التأريخي - التوثيقي "قضايا وحوارات النهضة العربية" الذي تبنّته وزارة الثقافة السورية وكان محمد كامل الخطيب صاحبَ فكرته، فطُبعت، بين عامي 1988 و2000، مجموعةٌ كبيرة من الكتب، والدراسات، والمذكرات الشخصية التي كتبها أعلام النهضة، أو الأبحاث التي كُتبت عنهم، وقد ساهم في إنجاح المشروع كلّ من الوزيرة نجاح العطار، والروائي حنا مينه، والمفكر أنطون مقدسي، والكاتب المسرحي سعد الله ونوس، والناقد الفلسطيني فيصل دراج.
الكتابُ متوفّر على "النت". ولذلك، أكتفي هنا بتسجيل بعض أفكار رئيسية من مقدّمته، ابتداءً من تأكيد الكاتب أنّ النهضة العربية بدأت منذ أواسط القرن التاسع عشر، وأخذت، في الخمسينيات والستينيات، تُضيء الآمال، وأحلام التغيير، خصوصاً في مصر وسورية، فثمّة آنذاك، حركة تنويرية شاملة، وشخصيات، وإنجازات، رموزُها رفاعة الطهطاوي، وخير الدين التونسي، ومحمد عبده، وجمال الدين الأفغاني، وطه حسين، وسامي الكيالي، وعبد الحميد بن باديس، وسلامة موسى، وساطع الحصري، وسليم خياطة... في ذلك العصر؛ خُلْخِلَت الأسسُ التقليدية للمجتمعِ والفكرِ القديمين، ولا سيما بعد انهيار السلطنة العثمانية، إذ جرى تحديد مفهوم "الأمة العربية" بوصفها "رابطة" جديدة لبلاد الشام ومصر والعراق، مكان مفهوم الأمة الإسلامية. وعلى هذه الأرضية؛ نبتت مفهوماتٌ جديدة في العلاقات الاجتماعية، ومؤسّسات المجتمع، ففي مجالِ التعليم، مثلاً، حلّت المدرسة المدنية محلَّ الكُتَّاب والمسجد والكنيسة، وجاء الأستاذ، بِزِيّه الأفرنجي، منافساً الإمامَ والشيخ والقسّيس، واعتُمرت القبعة بدلاً عن الطربوش والعمامة، وجاءت الأحزاب السياسية بديلاً عن المِلَل، وحلَّ مفهوم الديمقراطية (نظرياً) محلَّ الاستبدادِ الشرقي، وجاءت التنظيماتُ النقابية والمظاهرات السياسية مكانَ شغبِ العامة، وفي حقلِ الثقافةِ صرنا نقرأ الرواية والمسرحية والقصة القصيرة والفنون التشكيلية، وحركة تجديد الشعر، بدلاً عن الأنماط الكتابية القديمة.
ولكن، ومنذ السبعينيات، وبالتزامنِ مع الفورةِ النفطية، بدا وكأنّ هناك التفافاً، أو تراجعاً عن النهضة، بأشخاصها، وأفكارها، وقضاياها وتوجّهاتها، وجرت محاولة للتراجع عن المفهومات القومية، والعودة إلى تحديدِ الأمّة والشعب على أساسِ الدين والعقيدة، وتفجرت الحروب، والمذابح الطائفية، وهُوجمت الحزبية، والتعدّدية، بل الديمقراطية عموماً، وأعلن الحكام المستبدّون تديّنهم، في محاولةٍ منهم لتملّق التديّن السياسي من أجل الحصول على شيءٍ من المشروعية، وحتى الفنون الحديثة هُوجمت، ولم تسلم من الهجوم بعض الكتبِ التراثية مثل ألف ليلة وليلة، والفتوحات المكية لابن عربي، وعادت إلى الظهور نغمة أنّ الأرض ليست كروية، بل مسطحة وثابتة، حتى إن بعض ممثلي الفكر النهضوي، وقعوا في الهاوية، وشكلوا تيارات ماضوية حديثة، وراح بعض الماركسيين يبحثون في الماضي عن مشروعية أفكارهم وتقدّميّتهم عند أبي ذر الغفاري وابن سينا وابن رشد والقرامطة، قافزين فوق العصر والتاريخ وإنجازات العقلانية.. وهكذا؛ دخلت البلدان العربية في أشدِّ درجاتِ أزمتها خطورةً، مجتمعاتٍ وحكوماتٍ ومؤسساتٍ وأحزاباً وشعوباً.
هذا الكتاب، كما جاء في خاتمة مقدّمته، خلاصة مكثفة للمشروع الوثائقي التاريخي المُشار إليه، ومحاولةٌ للقيام بنظرةٍ تركيبية/ تكثيفية، تقدّم صورة عامة عن عصر النهضة الذي ما تزال تجري فيه حركة تغيير اجتماعي / ثقافي كبيرة.