جامعاتهم وجامعاتنا... طلبتهم وطلبتنا
يكاد مشهد انتفاضة الجامعات الأميركية دعماً لغزّة، ومشهد فضّ اعتصامات طلابٍ عديدين فيها بالقوة الأمنية، أن يكون سوريالياً، فعدا عن أنه يُحيلنا إلى حوادث مُماثلة في جامعاتنا العربية، في عقود قليلة مضت، فإنّه يثير التساؤلات بشأن تغيّر جغرافيا الاحتجاجات، لينتقل مركز ثقلها إلى الغرب عموماً، في مقابل حراك جزئي باهت ومتأخّر في مؤسّسات جامعية عربية قليلة، رغم أنّ الشرارة التي حرّكتها حربٌ وحشيةٌ وداميةٌ تحدُث، تحديداً، في منطقة الشرق الأوسط، منذ سبعة أشهر.
في كلّ مسارات التغيير الكبرى في العالم، كان الشباب ولا يزالون في طليعة أيّ حراك مهّد لها وأوصلها إلى مآلاتها النهائية، والطاقة المُحرّكة المُغذّية لها، والمُحفزة لانضمام فئاتٍ جديدةٍ إلى صفوفها، والأوكسجين المُتجدّد الذي يمنحها الحياة في لحظات اختناقها أو تراجع زخمها. ويقع طلبة الجامعات، في الشرق كما في الغرب، في قلب أيّ حراكٍ يَنْشد التغيير، وبأساليب سلمية عموماً، وفي ربيع عام 2024، استيقظ العالم على صورٍ وشعاراتٍ وأناشيدَ تصدح بها حناجر طلبة أعرق جامعات أميركا، التي حفظنا أسماءها اليوم، ومعها أعرق جامعات فرنسا، وفي مقدّمتها جامعة العلوم السياسية، التي يتخرّج فيها قادة فرنسا. وبدأت الرقعة تتسّع لتشمل جامعات أخرى في كندا وأستراليا وألمانيا. ومعها بدأت إدارات تلك الجامعات، وأخرى مُرشّحة للأحداث نفسها، وأجهزة الأمن، في الاستعداد لمواجهتها، في موقفٍ من أكثر المواقف إحراجاً لها، وإثارة للحيرة والخوف. وبقدر الدهشة أمام حقيقة جديدة لوعي جديد يتشكل في غرب الكرة الأرضية، وفي واحدة من أكثر مؤسّساتها تأثيراً ووعداً بمستقبل مختلف، جاء الاحتفاء بها والتعويل عليها محفّزاً بقية أطياف مجتمعاتها لإدراك الأمور على حقيقتها، وليس كما تُصوّرها لها حكوماتها وإعلامها المُلتزم بأجنداتها ومصالحها حصراً. وبالقدر نفسه، تواترت، أيضاً، عبارات الإحباط والخيبة من الجامعات العربية، وطلبتها، الذين "لم يرتقوا إلى مستوى الحدث/ المأساة، ولم يتحلّوا بالشجاعة والمسؤولية التي تحلّى بها أقرانهم في جُلّ جامعات الغرب، الذي يزوّد إسرائيل بوسائل قتل سكّان غزّة؛ عتاداً عسكرياً وتكنولوجيا متطوّرة وأموالاً، وأبواقاً تدافع عنها داخل مؤسّسات المجتمع الدولي وفي الإعلام"، على ما ينكتب ويُقال. لم تكن هذه المقارنة مفاجئة، ولا هي غير منطقية أو ظالمة، بل لعلّها فعلٌ لاإرادي في ظروف مشابهة، وخاصّة في هذا الظرف السياسي الخطير وغير المسبوق، إلا أنّه يجدر هذه المرّة أن تكون زاوية النظر والمقارنة مختلفة عما سبق، تأخذ في الاعتبار دروس الماضي واختلاف السياقات، وأهمّية استيعاب تجارب جديدة تماماً، والإيمان بها، حتّى وإن بدَت مخالفة للمعتاد...المعتاد أن ينتفض من يقع عليه فعل الظلم والعنف، وكلّ صنوف الأذى، وينتفض معه من هو قريب منه في الانتماء، بأبعاده المختلفة أو في الفكر والقيم. ولقد حدث هذا منذ أكثر من 70 عاماً، منذ طرد الفلسطينيون من أرضهم، وشرّدوا في الجوار، وفي العالم، وفي كلّ الحروب التي شنتها إسرائيل على من رابطوا من أهل فلسطين في مناطقهم، وعلى الجوار الذي آواهم، وعلى الدول التي هدّدت، مُجرّد تهديد، بإنهاء وجود الكيان الغاصب في المنطقة. أجيال من الطلبة العرب تصدّروا مظاهرات شعبية، وتعرّضوا للقمع الأمني، وردّدوا الشعارات السياسية، والأشعار، التي بقي أقواها يتردّد، ومنهم من تدرّج بعد التخّرج في سلّم العملين الحزبي والسياسي، وشارك في الحكم فعلاً، في أنظمة سياسية مُتعاقِبة. ما يدلّ على الأهمية القصوى للمؤسّسة الأكاديمية، ومنتسبيها، في التغيير، ورسم ملامح المستقبل، وإن لم يتغيّر كثيرٌ في سياساتنا العربية إجمالاً، فإنّ إسرائيل أيضاً لم تتزحزح، ولم تتراجع عن أهدافها الكبرى، ووسائل تحقيقها، بالقوّة تارّة، وبالسياسة والديبلوماسية والإغراءات تارّة أخرى، ملمّحةً طوراً، ومصرّحةً طوْراً آخر إلى أنّها لن تُهزم في المنطقة، ولن ينازعها أحد قوتها، وأنّ لا جدوى من كلّ عمل أو حتّى فِكْرٍ مناوئ لها، بما في ذلك خروج المظاهرات المُحتجّة على وحشيّتها، وترذيلها للشرائع والقوانين الإلهية والوضعية، ناهيك عن القيم الإنسانية في حدّها الأدنى. ولعلّها راهنت على الوقت والتعب واليأس والملل، الذي قد يعتري مختلف أشكال الحراك العالمي ضدّها، أيّاً يكن حجمه والجهة التي تقوده. وقد تكون كسبت رهانها أو بعضاً منه في منطقتنا العربية، إلا أنّها لم تحسب له حساباً عندما انطلق من مناطق أخرى في هذا العالم الواسع.
يتظاهر طلبة الجامعات الغربية ضدّ سياسات حكومات بلدانهم، لأنّهم يمتلكون ما يكفي من المعلومات والحقائق، التي تُؤكّد تعاون حكوماتهم وجامعاتهم مع الاحتلال
لنسمّه "تبادل المواقع" أو "تبادل الأدوار"، هذا الذي يحدث في جامعات الغرب، تبادل ضمني طبعاً، وليس مُعلناً أو متّفقاً عليه، بينها وبين القوى المرادفة لها في العالم العربي، من غير الحكومات، وأحد تمظهرات التحوّلات الكبرى التي نشهدها في ديناميكيات العلاقات والـتأثير، ومواقعه وأدواته. وفي كلّ حالاته، هو أفضل وأقوى ما حدث حتى اللحظة، في تعبيرات رفض هذه الحرب، التي تبدو كأنّها بدأت تترنّح تحت هذه "الضربات" السلمية جداً. لننظر إلى هذه الديناميكية من زاوية محدّدة، لنفهم لماذا قد تكون المُقارنة هذه المرّة غير منصفة، ولماذا قد تكون فائدتها وأثرها أعظم مما قد يتصوره البعض. يتظاهر طلبة الجامعات الغربية ضدّ سياسات حكومات بلدانهم، لا لأنّ هامش حرّية التظاهر أكبر لديهم، ولأنّهم تقريباً نخبة الطلبة هناك، ويعلمون أنّهم سيساهمون غداً في صياغة القرار في دولهم، ليس لذلك فقط، بل لأنّهم يمتلكون ما يكفي من المعلومات والمعطيات والحقائق، التي تُؤكّد تعاون حكوماتهم وجامعاتهم (بشكل مباشر وغير مباشر)، بأموال الضرائب التي يدفعها آباؤهم، مع الحكومة الإسرائيلية، التي تنفّذ هذه الإبادة، وتستمرّ فيها بفضل تلك المساعدة السخيّة، غير المحدودة، ولأنّهم يُلقنون في قاعات الدرس والمحاضرات دروساً في القانون والأخلاق والقواعد، التي تنظّم العلاقات بين الدول والشعوب والأفراد. ولكن، يتأكّدون كلّ يوم أنّه لا وجود لها في الواقع، وأنّها حبر على ورق، ومُجرّد نظريات قد تنتابهم الشكوك في مقدرتهم على تطبيقها مستقبلاً، عندما يصبحون في مواقع الفعل والقرار. ولأنّ أصواتهم في الانتخابات تحدث فارقاً حقيقياً، مهما قيل عن تلك الانتخابات، ولأنّهم خصوصاً، يُوجدون في موقع قوّة لا موقع ضعف. وصوت الضعيف يَفقِدُ مع الوقت والأحداث صداه، حتّى مع عدالة قضيّته، التي لا يرتقي إليها الشكّ. الضعيف الذي يتحوّل رغماً عنه "ضحيةً" تذهب تنديداتها وشكواها، مع التعوّد والتكرار، أدراج الرياح، وعندما تلجأ الضحية إلى الفعل المُقاوم، توصم بالعنف والإرهاب. وهذا حال غزّة وأهلها ومقاومتها، وهذا تقريباً مصير كلّ من يدعمها بواسطة فعل غير سياسي أو دبلوماسي أو عسكري. وطلبة الجامعات في عالمنا العربي لا يمارسون السياسة، ولا الدبلوماسية، وإنّما يمتلكون القدرة على التظاهر المحدود فقط، التظاهر الذي رأينا كيف تراجع زخمه كثيراً في الأعوام الأخيرة، وكيف قُمع في الحيّز الضيّق، الذي لا يزال بإمكانه التحرّك فيه، والذي، في محصلته، لا يغيّر شيئاً في صناعة القرار العربي إجمالاً. لكلّ ذلك، تكتسي انتفاضة الجامعات الغربية، أهمية وقيمة لا تقدران بثمن، قد يرى العالم نتائجها، ويقطف ثمارها في المديين المتوسّط والبعيد، وما هذا الارتباك الرسمي الغربي في التعاطي معها إلا مُؤشّر إلى أنّها ضربت على عصبٍ حسّاس جداً، إمّا أن يعدّل وظائف العقل والجسم السياسي هناك أو أن يُعطّله ويجبره على الركون جانباً، وإحلال جسم جديد في محلّه، ولو بعد حين.
في كلّ مسارات التغيير الكبرى في العالم، كان الشباب ولا يزالون في طليعة أيّ حراك مهّد لها وأوصلها إلى مآلاتها النهائية
إنّها القدرة على الفعل، تلك التي تميّز الحراك الطلابي العربي عن نظيره الغربي، وليس في هذا الرأي تقليلٌ من إرادة طلبة الجامعات العرب أو وعيهم وصدق ما يؤمنون به، ولكنّه واقع حَكَمَ عليهم بالتقوقع في هذه المساحة، في انتظار غدٍ قد يكون أفضل، لا ينظر إليهم فيه مُجرّد شبابٍ في مرحلة دراسية متقدّمة قليلاً، قليلي الخبرة وبوعي محدود، يضعون نصب أعينهم الفوز بوظيفة بعد التخرج أو الرحيل إلى "العالم الحر"، كأقصى حلم ومطمح. لم أرصد، شخصياً، غيرة أو استنقاصاً أو تشكيكاً من طلبة عرب تجاه زملائهم في جامعات هارفارد أو كولومبيا أو كاليفورنيا - لوس أنجلوس أو ماك - جيل أو ييل أو العلوم السياسة العريقة في باريس، أمام هذا الاحتفاء شبه الكوني بهم، وبحراكهم الرائع والصلب، وإنما رصدتُ نوعاً من "التواطؤ" الحميد والناضج، وارتياحاً لحقيقة أنّه لا يزال للعقل والضمير حيز في هذا العالم المجنون، قد يعيد إليه صوابه، ويا للغرابة! شباب يعتقد تقليدياً أنّه لم يفهم الحياة بعد... ويأتيك بالأخبار من لم تَزوّدِ.