جائزة الشيخ حمد للترجمة من نوافذ الآخرين

03 فبراير 2023
+ الخط -

كيف نُترجم كلمة "غربة" إلى لغاتٍ أخرى؟ وهي كلمة تحملُ من الثِّقل ما لا تتحمّله لغة أخرى؟ طرح المُترجم الإيطالي آلدو نيقوسيا هذا السّؤال، في ندوات منتدى جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي، في دورتها التّاسعة في الدوحة أخيراً. وضغطَ على زرِّ تداعي الكلمات، بين المُترجمين الذين على الرغم من أنهم ينتمون إلى جنسيات وألوان وأعراق مختلفة، إلا أنك حين تُحيِّيهم بالعربية، يجيبونك بفُصحى من الجَمال بمكان. بل كانت اللغة العربية على ألسنتهم أجمل مما هي على ألسنة أهلها. شابٌّ من كازاخستان، وآخر من الصين، وثالث من باكستان، ورابع من إفريقيا جنوب الصّحراء، وصبيّة بمنتهى النُّعومة من اسكتلندا... هذا جيلٌ جديد من المترجمين، يُضاف إلى المتبنّين للغة العربية، ممن قضوا عقوداً في تلقّيها، وإعادة تقديم ما كُتب بها إلى القرّاء في لغتهم. مع ذلك، يصعب عليهم الإجابة عن سؤال: لماذا اخترتَ دراسة العربية؟ سألتُ المترجم الرّوماني الذي قدم أعمالاً عربية كثيفة للقارئ الرّوماني، جورج غريغوري، وقال إنه انجذب أولاً إلى شخصية ابن بطوطة، الذي وصل إلى رومانيا في رحلته نحو غرائب الأمصار، وتحدّث عن بلدةٍ صغيرة هناك، ما جعل أهلها يستشهدون به في بناء تاريخها.

مما يرويه معظم غير العرب الذين تعلّموا اللغة العربية، نعرف أنّهم انجذبوا إليها بفعل سببٍ شخصي، دفعهم إلى اختيار لغةٍ صعبة لعالمٍ غامض للقارئ من دول الشّرق والغرب، الذي يستقي معرفته بالمنطقة العربية من الإعلام. مع ذلك، انشغل معظم المترجمين بالقارئ المتخصّص، ولعلهم فعلوا بسبب النقص في المراجع العربية خلال دراساتهم الأكاديمية.

من الفلسفة العربية في زمن تألّقها مع ابن رشد والفارابي وآخرين، إلى الفلسفة المعاصرة مع محمد عابد الجابري وطه عبد الرحمن، إلى الكتب الدينية وبعضها متخصّصٌ إلى درجة الانغلاق أمام القارئ العربي. ورغم الاعتقاد السّائد بأن ترجمة الأدب أسهل، مقابل الكتب الفقهية مثلاً، بل إنّ فيلسوفاً معاصراً مثل طه عبد الرحمن سيجد معه المستعرب صعوبة هائلة، يجدها المهتم العربي نفسه في فهم الاشتقاقات اللغوية التي يختارها في كتبه، مع ذلك، لا تقلّ ترجمة الأدب صعوبة، فهو يتطلّب أكثر من اللغة، لأنه يفرض على المترجم أن يكون مبدعاً بدوره، وأن يكون على مستوى قريبٍ من روح الكتابة التي يكتب من داخلها كاتب النّص الأصلي، فمترجم هذه الرواية أو ذلك الديوان الشّعري يحتاج إلى استعارة العين التي رأى بها، والرّوح التي كتب بها، والعاطفة التي تُسيطر على صفحات رواية أو ديوان أو سيرة...

وكان اللّقاء بعشرات من المتخصّصين في فروع معرفيّة مختلفة مناسبة فريدة لم أشهدها في أيّ لقاء أو منتدى عربي. ولم أجد نفسي يوماً في مكان يجمع هذا القدر من التنوّع في الأشجار المثمرة من كل فاكهةٍ لغويةٍ ومعرفية. بين البنغالية والأوردية والسواحلية والكورية واليابانية والصّينية والتركية والفارسية واللغات الأوروبية ... فسيفساءٌ لغوية وثقافية وعرقية بديعة. ما فعلتهُ جائزة الشيخ حمد للتّرجمة فريد وعظيم في أثره وأهدافه. ومن رأَى ليس كمن سمع. لكنّ منتمين إلى المنطقة العربية كثيرين، لا يعلمون عن هذه الجائزة وتأثيرها الكبير، والمنتدى المقام على هامشها، وهذا العدد الهائل من المُغرمين باللّغة العربية.

ضمن المواضيع التي أثارت اهتمام كاتبةٍ مهمومةٍ بالأدب مثلي موضوع الترجمة الشّخصية. أي ترجمة كاتب كتبه إلى لغة أخرى. لأسبابٍ كثيرة، منها ما أورده عبد السّلام بنعبد العالي في مداخلته عن هناتِ المترجمين التي أشار إليها صاحب "لوليتا" الرّوسي فلاديمير نابوكوف. إضافةً إلى ما يلمسه الكاتب من فروق بين اللغتين. خيرُ مثال على ذلك الترجمات الذاتية للإيرلندي صمويل بيكيت الذي كان ينطلق في رواياته من الفرنسية، "لجماليتها المتقشّفة"، ومن الإنكليزية في مسرحياته، لبراعة خطابها. ولم يكن يتعامل مع النصّين واللغتين بوصفه مترجماً، بل كان يُعيد الكتابة فيما يُترجم نصه بنفسه. ولعل كلّ ترجمةٍ إعادةُ كتابة، لأنّ للكلمات طريقتها الخاصة، لتصف صاحبها.

رغم أنّها الكلمات نفسها التي يستعملها الآخرون، ورغم أنّها تُعيد إنتاج ما أُنتِج بلغة أخرى، إلّا أنها مثل البصمات تعبّر عن شخصٍ واحد فقط، هو المؤلّف أو مُترجمه.

596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
عائشة بلحاج

كاتبة وصحافية وشاعرة مغربية

عائشة بلحاج