ثورة الطلاب بين فيتنام وغزّة
الطلبة في العالم غاضبون من أجل غزّة. كرة من الثلج تكبر كلّ يوم. هذا أقرب توصيف للحراك الطلابي، وخاصّة في الولايات المتّحدة، التي تستخدم السلطة فيها أساليب شرسة لكسر الاحتجاجات، ولكنّها لم تنجح. ويكشف الموقف الرسمي عن أمرين. الأول، الخوف من النتائج السياسية. والثاني، أنّ الحراك بات محل رهان أطراف سياسية واجتماعية، من أجل تصحيح مسار السياسة الرسمية في أميركا وأوروبا. ومن دون مبالغة، تلعب غزّة اليوم الدور نفسه الذي نهضت به حرب فيتنام في النصف الثاني من الستينيات في القرن الماضي. وفي حينه، نجح الطلبة في إجبار السياسيين في الولايات المتّحدة على تغيير الاتجاه العام، ووقف الحرب، كما أنّهم أحدثوا نقلة نوعية سياسية واجتماعية وثقافية. ولم تكن ثورة الطلاب في فرنسا في مايو/ أيار 1968، منفصلة عن ذلك. وكان من أبرز نتائجها تغيير مجرى الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية، وإحداث انقلاب نوعيّ تجاه تركة احتلال الجزائر، والتعاطي مع الإرث الثقيل لفرنسا في مستعمراتها السابقة، وهو ما انعكس في القوانين المدنية والحرّيات الحزبية والصحافية، ووصول اليسار إلى الحكم في مطلع الثمانينيات.
تراهن السلطات على خنق الحراك بالقوة، من خلال استخدام العنف لفضّ المظاهرات والاعتصامات، والتهديد بالطرد والترحيل، وسحب التأشيرات، لكنّ الأمر لن ينتهي عند هذا الحد، فما يحدُث ليس عاصفة عابرة، بل هو مجرى جديد يحفر بقوّة، ويشقّ طريقه وسط بيئات تمتلك فيها اللوبيات المُؤيّدة لإسرائيل حضوراً قوياً، والنتيجة الماثلة للعيان الآن أنّها تخسر جزءاً أساسياً من حضورها ونفوذها داخل أكثر المحافل الأكاديمية أهمّية في العالم، بعدما حاولت في الأعوام الأخيرة تطهيرها من حركة المقاطعة لإسرائيل. ومن هنا يُعدّ الرهان على الآثار اللاحقة ذا أهمية قصوى لجهة تغير زاوية النظر إلى إسرائيل. وقد أصبح واضحاً أنّه لم يعد من الممكن إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، فقد سلّطت الحرب الضوء بقوة على الوجه الحقيقي لإسرائيل، وهي أنّها دولة تأسّست على نكبة الشعب الفلسطيني، وكي تستمرّ ليس لديها غير أدوات الإبادة والاستيطان والأبارتهايد. ومن المُؤكّد أنّ هذا الوجه ليس وليد هذه الحرب، فجذورُه تعود إلى عقود عدّة، ولكن لم يكن له أن يظهر، على هذا القدر من الوضوح، لولا التوحّش المُفرط الذي مارسته إسرائيل في غزّة، وما قامت به من تدمير وقتل وتجويع وتهجير للمدنيين، وهو نمط من السلوك يرتبط فقط بالاستعمار، وبالحكومات الخارجة على القانون. وما يهمّ فلسطين هنا، هو أنّ هناك حالةً من التضامن الدولي تشكّلت للوقوف مع الحقّ في الحرية والخلاص من الاحتلال. وهذا يعني أنّ معركة الشعب الفلسطيني من أجل الاستقلال باتت عالمية على مستوى الرأي العام، مثلما أصبح عليه نضال شعب جنوب أفريقيا في الأعوام الأخيرة التي سبقت تفكيك نظام التمييز العنصري.
وتكمن أهمية الحراك الطلابي، قبل كلّ شيء، في أنّه مستقلّ لم يحرّكه أحد، وكان دافعه الأساسي الإحساس بعدالة القضية الفلسطينية. ونظراً إلى أنّه غير مسبوق بهذا الزخم من أجل التضامن مع فلسطين، فإنّه يشكّل ظاهرة تمتلك مقومات الديمومة والاستمرارية، وتمد جسوراً قوية نحو المستقبل. والأمر الآخر الذي يشكل أحد أبرز مصادر قوّة الحراك الطلابي هو التنوع الكبير داخل مكوّناته، وعلى مستوى انتشاره الجغرافي، في أوروبا والولايات المتّحدة وكندا وأميركا اللاتينية واليابان وأستراليا. ولا تقتصر المظاهرات الطلابية على طلبة فلسطينيين وعرب، بل يحتلّ الأجانب الأغلبية فيها، من أبناء البلاد والأفارقة والآسيويين، واليهود الذين لعبوا دوراً بارزاً في فضح الحرب وتعرية تهمة "معاداة السامية" التي لجأت إليها أغلبية الحكومات سلاحاً للترهيب من أجل تغطية وتبرير انحيازها إلى جانب إسرائيل.