تونس ... مع المرزوقي في صدّ الثورة المضادة

06 نوفمبر 2014

المرزوقي يخاطب تجمعاً في حملته الانتخابية (2 نوفمبر/2014/أ.ف.ب)

+ الخط -

داخلياً، يطلب زعيم حركة نداء تونس، الباجي قائد السبسي (88 عاماً)، من رئيسي الجمهورية والبرلمان في بلاده، المنصف المرزوقي ومصطفى بن جعفر، أن يُخليا موقعيهما، زهواً منه ببلوغ حركته المرتبة الأولى في الانتخابات التشريعية التي جرت في 26 أكتوبر/تشرين أول الماضي، وتعبيراً عن ثقةٍ لديه بنجاحه في استحقاق انتخاب الرئيس في 23 نوفمبر/تشرين ثاني الجاري، وهو المرشح فيها بين 27 متنافساً، وحظوظه في نيل الموقع الأول في البلاد ليست قليلة.
خارجيّاً، يعلن الأمين العام للحركة، الطيب البكوش، وهو وزير سابق وحقوقي، أن تونس ستعيد العلاقات مع سورية، إذا ما تولت "نداء تونس" قيادة البلاد، لمصلحة الشعب التونسي، بحسب تعبيره. وبدا غريباً في غضون احتدام معركة الانتخابات للرئاسة أن يُؤتى على هذا الشأن الثانوي، لكن الأمر فيه ما يؤشر إلى لفت أنظار أطرافٍ إقليميةٍ ودوليةٍ إلى خيارات الحركة في شأن غير ملفٍّ خارجي، فالمقصود ليس إقامة صلاتٍ مع نظام بشار الأسد، بل الإيحاء بأن تونس، إذ مضت في نصرة الثورة السورية، وحق الشعب السوري في التحرر من الاستبداد، واتجهت، في ذلك، إلى منحى خاص ومتقدم، فإنها في طور "نداء تونس" ستنعطف إلى أولويات أخرى بشأن سورية (وغيرها طبعاً)، قد لا يكون مرتكزها الانتصار للسوريين، بقدر ما سيتركّز على أجندة محاربة الإرهاب، مثلاً.
لم يعد سرّاً أن حركة الباجي السبسي حظيت، في العامين الماضيين، بانتباه إقليمي خاص، وساندتها دول الثورة المضادة في المنطقة، وأنها ما أن تشكلت كتلة نيابية، ابتداءً، من عشرة نواب غادروا أحزابهم، حتى استطاعت في غضون هذين العامين أن تصبح قوة غالبةً ومهمةً ووازنةً في تونس، عندما انخرط فيها كثيرون من بقايا حزب التجمع الدستوري المنحل، ورجال مال وأعمال ومحافظون وليبراليون من أهل الهوى البورقيبي وأنصار نظام زين العابدين بن علي، مع أسماء حقوقية ونقابية، في تشكيلةٍ وجد فيها الجمهور التونسي بعض جاذبيةٍ تنزع إلى توفير حالة أمان، ربما متوهمة ومتخيلة، في أُتون الاستقطاب السياسي بين فاعلياتٍ علمانيةٍ في البلد وحركة النهضة الإسلامية. وما تبدّى، في غضون العامين الماضييْن، أن القوى الإقليمية في المنطقة، التي تخوض حرباً معلنة، بقيادة السعودية ومصر تحديداً، ضد تيار الإسلام السياسي، وضد نزوعات الثورة التحررية من الفساد والاستبداد والتسلط في البلاد العربية، وجدت في حالة "نداء تونس" عوناً مهماً في هذه الحرب. على أن التأشير إلى هذا الأمر لا يعني التعمية على بديهيّة أن هذه الحركة الناشئة، في أول بلدان الربيع العربي، ما كان لها أن تقوى، وأن تجد لها في بيئاتٍ تونسية عريضة قبولاً واضحاً، لولا أن قوى اليسار وتمثيلاته، المدنية والحزبية، أخفقت في تثمير حالة النهوض الثوري بين قطاعات الشباب والطلاب والشرائح الاجتماعية من الطبقة الوسطى ومن دونها، وآثرت الاشتباك مع حالة الإسلام السياسي، صدوراً عن مخاوف وتوجسّات لديها، ما أشغل التونسيين، بعض الوقت، في هذا الاستقطاب، والذي كان وارداً أن يمضي إلى درجاتٍ سفلى من الإنهاك السياسي والتوتر العام، لولا أن رموزاً وازنةً في الثورة التونسية، وفي مواقع الصدارة في الفاعلية الميدانية، وتحظى باحترام قواعد شعبية عريضة، رجّحت خيار الوفاق والتوافق، وأبعدت البلاد عن المكاسرة والتشنج، ما أمكن. وليأْذن، لنا إخوتنا التونسيون، في القول إننا، نحن إخوتهم المشارقة، وجدناهم محظوظين بنخبةٍ سياسيةٍ طيبة، راهنت على المشترك، وآثرت تونس على الفصائلي والحزبي، وذهبت في اتجاه الجوهري على العابر، وانحازت إلى الثورة باعتبارها أشواقاً يلزم أن تظل دائماً قيد التحقق، وعملت من أجل الحؤول دون تسلل الثورة المضادة، بعناوين متنوعة، إلى جسد الحالة التونسية الواعدة، والتي بدأت، بُعيد إطاحة بن علي وهروبه، تمريناً ديمقراطيّاً يختبر الحرية، ويشتبك مع استحقاقاتها بمسؤولية وجدارة.


أهل تونس أدرى بشعابها، وأدرى بكثيرين من هذه النخبة التي يُشار إليها هنا، ويجوز لهم أن يؤثروا فلاناً على فلان، ويحبّذوا خيارات علان على خيارات علان. ولا تغادر هذه السطور صحيح القناعات إذا ذهبت إلى أن رئيس الجمهورية، المنصف المرزوقي، واحد من خيرة تلك النخبة التونسية، المؤمنة حقّاً بوجوب مضي بلادها إلى مقاصد ثورة 17 ديسمبر/كانون الأول (أو جانفي)، من دون ارتداداتٍ إلى الوراء، ولو كانت العثرات والمعيقات والصعوبات غير هينة. وقد دلل الرجل على خياره هذا في أدائه مسؤولياته، في منصبه، المؤقت (بحسب التوصيف الدستوري)، وإن وُجدت ملاحظاتٌ في هذه المسألة وتلك. وإذ تعبر تونس إلى استحقاق الانتخابات الرئاسية، بعد أيام، فإن الأوضح أن المعركة ليست بين شخص هذا المرشح أو ذاك، بل بين التمثيل الظاهر لقوى الثورة المضادة، في غير اسم من بين المرشحين، والتمثيل الظاهر لقوى الثورة التونسية، بتوجهاتها وآمالها. والبيّن في المشهد أن عملاً دؤوباً محموماً، تنشط فيه أطرافٌ إقليمية ودولية، عربية وأجنبية، من أجل كسر مسار تونس إلى الاتجاه الذي جهر به ثوار سيدي بوزيد، لما أشعلوها، وأقلقت زين العابدين، وجعلته يرتعش، وهو يرى جموع التونسيين من نوافذ قصر قرطاج، تعلنها في وجهه أنَّ عليه أن يرحل.
رحل المذكور، غير أن تعبيراتٍ في نظامه لم ترحل، توارت بعض الوقت، ثم وجدت منافذ جدّدت فيها حضورها، فأخذت تعقد المؤتمرات وتنظم التظاهرات، وتقيم واجهات حزبية ومدنية، من أجل تلوين نفسها بكيفياتٍ تيسر مقبولية مطلوبة لهم. ولم يكن مطلوباً اجتثاث هؤلاء، ولا التخلص منهم، ففيهم كفاءات وخبرات في حقول وميادين غير قليلة، ولم يقل ذلك أحد من قياديي حركة النهضة وحزب المؤتمر من أجل الجمهورية، ولا غيرهما من عناوين الثورة التونسية، إلا أن استقواء رموز من أولئك، وبعضهم لم يعد يرى حرجاً في إشهار رفضه الثورة وتمثيلاتها السياسية، الجديدة والقديمة، ولم يعد يُخفي تحركه من أجل استرداد مواقع نفوذ ومصالح في البلاد، صارت في مطارح أخرى في سياق آخر. ولأن حساسية الوضع العام، في هذه الأيام تحديداً، غير هيّنة المقادير في تونس، فإن معركة الرئاسيات جولةٌ مرتقبة في مكاسرة هؤلاء، والذين لا نفتئت على الحقيقة إذا ما ذهبنا إلى أن "نداء تونس" هي الإطار الحركي الذي يجدون فيه المطرح الدافئ لهم. ولأن الأمر كذلك، في صورته العامة، فإن توافق القوى الديمقراطية والثورية على شخصيةٍ واحدة، لإسنادها في هذه الجولة الشديدة الحساسية، يصبح مطلباً ملحاً، وغاية يحسن الإسراع بها، في محاولة وجيهة وشجاعة ومسؤولة، من أجل صد كل هذه المخاوف التي ما عاد التعبير عنها همساً، عن مؤشرات إلى وقوع تونس في لون محسّن من التسلط السياسي، عندما يستأثر لون أحادي، ذو صلات غير الخافية بمرجعيات بن علي، بالسلطة والحكم والقرار.
من موقع الملاحظ، ومن بعيد، حيث شواطئ الخليج في المشرق العربي، نعاين المعركة بعين عربية، تلحظ النشاط الإقليمي إياه، والذي يدأب من أجل السبسي ليكون إلى جوار السيسي في القاهرة، فيكونا العنوانين الأبرزين لنجاح الثورة المضادة في بلدي الربيع العربي الأوليْن، تونس ومصر، بالتنويعيْن المكشوفيْن، المدني المنتخب في بلد محمد البوعزيزي، والعسكري (المنتخب؟) في بلد أبهجت العرب حشود ميدان التحرير فيه. والمرزوقي الذي أعلن، من منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة قبل أزيد من عام، وجوب الإفراج عن محمد مرسي في مصر ليس إخوانياً، ولا قرابة تصله بالإسلام السياسي، غير أنه كان يصدر، في مطلبه ذاك، عن قناعته بالديمقراطية الحقّة، ويتوجّه إلى الجمهور العربي العريض، وليس في تونس وحدها، بأن القوى والأنظمة والتشكيلات التي تحارب الربيع المنشود والمشتهى ليست هيّنة الأسلحة، ولا ضعيفة الإمكانات، المالية منها، والعسكرية أيضاً، وكذا الإعلامية، وأن حبس محمد مرسي بالتهم السخيفة، إياها، واحد من حوادث نجاح هذه الأسلحة.
لا تحتاج نخبة تونس الوطنية إلى درسٍ من أحد، غير أن بهجةً تغشانا، نحن في المشرق العربي، المستباح بحسب وصف أستاذنا، برهان غليون، ونحن نتملى المشهد الطيب في تونس، تجعلنا ننتظر نجاح هذا البلد وشعبه وقواه الحية في اختبارٍ عسيرٍ مرتقب يوم الثالث والعشرين في الشهر الجاري، لا مجازفة في الزعم إن عنوان النجاح اسمه المنصف المرزوقي وعنوان الإخفاق اسمه الباجي السبسي.

 

دلالات
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.