تونس بين قوة القانون وقانون القوة
السؤال الذي طرحه الزميل محمد كريشان، في مقاله الأسبوعي في صحيفة القدس العربي، يشغل حالياً الساحة التونسية هذه الأيام: ماذا لو ألغت المحكمة الإدارية نتائج انتخابات الرئاسة في 6 أكتوبر؟ وهو احتمال مرعبٌ حقّاً، فالمسار الانتخابي الذي كانت انطلاقته خاطئة، وتسارعت خطواته، يُنبئ بأنه سيُفضي إلى أزمة عميقة غير مسبوقة في تونس، فالمرشّحون الذين أبعدتهم الهيئة العليا المستقلة للانتخابات تقدّموا بطعون من شأنها التشكيك في مصداقية العملية الانتخابية، علماً أن المحكمة وجدت نفسها مضطرّة، وهي أعلى سلطة قضائية، أن تواجه ما اعتُبر عناداً غير مبرّر من الهيئة، على الاستمرار في رفض الخضوع للحكم القضائي. وهو ما غذّى الصراع بين طرف يتمسّك بعلوية القانون الذي يُفترض فيه أن يحمي الدولة وطرف يستند إلى سلطة الرئيس المنتهية ولايته، والراغب في تجديد العهدة خمس سنوات أخرى.
عندما تتعارض مؤسّستان بهذه الطريقة وبهذه الخلفية، ما الذي يمكن أن يحدث؟ يجيب على السؤال أستاذ القانون الدستوري أمين محفظ، الذي ساند "مسار 25 جويلية"، وشارك في صياغة مشروع دستور طلبه قيس سعيّد قبل أن يضعه في الدٌّرج ويُصدر دستورَه الخاص، بالقول إن الوضع معقد، وإن البلاد اليوم أمام مفترق طرق. إما أن تُعطى الأولوية لـ"قوة القانون" التي تقضي بتراجع السلطة عن المسار الانتخابي الحالي وتنفيذ حكم المحكمة الإدارية، فإن رفضت ذلك، يبقى الخيار الثاني الذي يتمثل في "قانون القوة"، أي حكم الأمر الواقع، الذي أشار إليه في كتابه الصادر أخيراً "مسار دستور تونس 2022 بين حلم الديمقراطية ومخاطر الديكتاتوريّة".
تونس مُقدمة على أيام صعبة، فالكيفية التي تُدار بها الحملة الانتخابية مطعونٌ في صحّتها قانونياً ودستورياً، وهو ما أجمعت عليه الهيئات المدرّسة للقانون أو الساهرة على تنفيذه والمعتمدة عليه في دفاعها عن المظلومين، مثل عمادة المحامين التي قرّرت التخلص من حالة التردّد، ورفعت صوتها عاليا للاحتجاج على سياسة السلطة المتّبعة حالياً، والمتعارضة كليا مع حقوق الدفاع والحريات. وهو ما يؤشّر إلى اتساع المسافة بين رئاسة الجمهورية والقاعدة العريضة للنخبة العالمة والفاعلة في البلاد، التي أكّدت رغبتها في الخروج من جلباب الفئة الحاكمة. واستعاد عديدون من أفراد هذه النخبة وعيهم بأن المرحلة الحالية تفرض تجاوز الفرز الأيديولوجي مؤقّتا، والاعتراض بوضوح على ما اعتبروه "الخطر الداهم"، المتمثل، حسب اعتقادهم، في "عودة الدكتاتورية". وقد تجسّد ذلك في المسيرة التي شهدتها العاصمة أخيراً، وجمعت مختلف الطيف السياسي والمدني أول مرة منذ عدة سنوات، ولم يفهم أنصار قيس سعيّد رمزيتها ودلالتها، ورأوا في الآلاف الذين طالبوا الرئيس "بالرحيل" مجرّد "عملاء للسفارات الأجنبية". لم يعد شعار "محاربة النهضة" كافياً للانحياز لرأس السلطة، والسماح له بأن يفعل ما يريد من دون قيد أو شرط.
ما يُخشى أن تصبح الحالة التونسية شبيهةً، في بعض جوانبها، بالحالة الباكستانية، عندما أصدرت المحكمة العليا حكماً يقضي بإبطال قرار الرئيس حلّ البرلمان والحكومة، واعتبرته مخالفاً للقانون والدستور. كما تدخلت المحكمة العليا في مطلع السنة الجارية لتلغي قراراً رئاسياً يمنع الذين صدرت بحقهم أحكام سابقة من خوض الانتخابات مدى الحياة، ما من شأنه خلط الأوراق في الساحة الباكستانية بعودة نواز شريف للترشّح لمنصب رئيس الوزراء للمرّة الرابعة، فما كان من رئاسة الجمهورية ومؤسّسات الدولة، بما في ذلك الجيش والشرطة، سوى تنفيذ حكم المحكمة من دون تردّد.
ما يميز النظام الديمقراطي قدرته على حسن إدارة الخلافات والصراعات التي تنشأ بين مكوّنات النخب ومؤسّسات الدولة بطريقة سلمية، خصوصاً خلال المراحل الانتخابية، فإذا لم يقع الاحتكام إلى قواعد اللعبة، يصبح المجال مفتوحاً لمنطق القوة الذي يتناقض مع العقد السياسي والاجتماعي الذي يستند إليه النظام والدولة... عندها تتبخّر الشرعية، ويصبح الحكم يومئذ للغلبة.