تونس العائدة إلى حضن الاستبداد العربي
لم تحتمل الأنظمة العربية بقاء تونس متفرّدة، وتعبر، بسلام، مرحلة انتقالية إلى العالم الديمقراطي. كما أن بقاء هذا النموذج وتطوّره يشكّل خطراً مقيماً في الجغرافيا العربية، ويهدّد المنظومة السياسية العربية القائمة على الاستبداد وحكم الفرد، بمعاونة العسكر والأجهزة الأمنية. لذا كان لا بد من مواجهة هذا التحدّي.
إسقاط التجربة التونسية، وعاجلاً، كان الاستثمار السياسي الأهم لأنظمة الاستبداد العربي، حيث سيتم الاستناد إلى هذا السقوط لإثبات نظرية أن الديمقراطية الغربية تجربةٌ فاشلةٌ في الشرق الأوسط، ولا تستلزم إعادة التفكير فيها أو تشجيعها، وأي محاولةٍ بهذا الاتجاه بعد إثبات فشلها، بالدليل القاطع، تعني استثماراً بالموت والفوضى والدمار. وبالتالي فإن تأييد الخارج للديمقراطية في المنطقة يكاد يرقى إلى جريمة حرب موصوفة.
يملك سعيّد أوراق قوّة مهمة في مواجهة القوى السياسية التونسية الحالية، دعم الجيش، وقوّة خارجية مؤثرة، وغضب شعبي من كامل المنظومة السياسية
لم يكن خافياً على أحد الصراع القائم على تونس من الأقطاب العربية والإقليمية، إذ سعت تلك الأقطاب إلى استقطاب المنظومة السياسية الناشئة في تونس، أو استقطاب أجنحتها، المختلفة والمتصارعة، ومحاولة جميع اللاعبين، الخارجين، الحصول على حصةٍ من هذه المنظومة، الأمر الذي انعكس صراعاتٍ حادّة عطّلت السياسة، وشلّت الحياة العامة في بلدٍ أرهقت شعبه الظروف الاقتصادية والمعيشية.
هل نستطيع القول إن تحالف الاستبداد قد فاز في المعركة على تونس؟ وحتى نكون موضوعيين، لم يكن التحالف الآخر ديمقراطياً بقدر ما كان أيديولوجياً، وأن تونس بوصفها نموذجاً ديمقراطياً كانت تهمّ أنصار الديمقراطية ومؤيّديها من مثقفين ونشطاء وثوريين، والذين ليس لهم أي تمثيلٍ أو صفة رسمية في أي من الدول العربية.
نعم، فاز تحالف الاستبداد، ولو مؤقتاً، نتيجة استقطابه أقوى طرفٍ في اللعبة السياسية التونسية، الرئيس قيس سعيّد، وهو أقوى طرفٍ بمعنى أنه الشخص الوحيد الذي يحظى بأكبر إجماع تونسي، بحصوله على مليونين ونصف مليون صوت في الانتخابات الرئاسية، لكن الأهم من ذلك كله لأنه الطرف الذي يعطيه الدستور حقوقاً لا يعطيها لغيره، حتى لو كان هناك خلاف بشأن تفسير مدى الصلاحيات الممنوحة له، وتلك إشكالية في صياغة الدستور، وتحديداً المادة 80 التي استند إليها سعيّد، والتي لم تحدّد آليات ومعايير واضحة للتعامل مع "حالات الخطر الداهم"، وتركت المسألة خاضعةً للتقدير الذاتي للرئيس.
افتقدت حركة النهضة القدرة اللازمة للسير بتونس إلى أوضاع أفضل، فقد استهلكتها الصراعات، وخصوصاً مع الحزب الدستوري الحر
يملك سعيّد أوراق قوّة مهمة في مواجهة القوى السياسية التونسية الحالية، دعم الجيش، وقوّة خارجية مؤثرة، وغضب شعبي من كامل المنظومة السياسية، وسيعيد تشكيل المشهد السياسي في تونس، باتجاه تركيز الحكم بيديه بدرجةٍ كبيرة، ليأخذ تونس إلى نموذج حكم الفرد، مستغلاً انهيار بريق الديمقراطية نتيجة صراعات المنظومة السياسية، والتي عاينها التوانسة، وكشفوا مشكلاتها وعاشوا أزماتها.
ومن الواضح أن سعيّد وضع خطة متكاملة لبلوغ أهدافه، تقوم على أكثر من مرحلة، لكن تطبيقها سيكون سريعاً قبل خروج القوى السياسية من حالة الصدمة التي أوقعتها بها قرارات سعيّد. وقد تضمّنت المرحلة الأولى إقالة الحكومة وتجميد البرلمان واستلام مهام المحكمة الدستورية، والثانية فتح تحقيق بتهم الفساد ومحاولة اغتيال الرئيس، مع شخصياتٍ مفصليةٍ في أحزاب السلطة الحالية، وتبدو نتيجة هذه المحاكمات واضحة، وخصوصاً تهمة الإرهاب التي لا يستبعد أن تكون استنساخاً للتجربة المصرية في محاكمة المعارضة.
ومن الواضح أيضاً أن القوّة السياسية الكبرى في تونس قد تم حشرها في موقف دفاعي، ووضعها ضمن خياراتٍ صعبة، فإما الرضوخ والتفاوض ضمن الشروط التي يحدّدها سعيّد، بما يعنيه ذلك من قبول إعادة سعيّد تشكيل المجال السياسي التونسي وتحديد أدوار الفاعلين وتراتبيتهم، أو اللجوء إلى العنف، في استعادةٍ لتجربة الجزائر المريرة في تسعينيات القرن الماضي، وهو خيارٌ انتحاري في كل الأحوال، لا يتمنّى أحد الوصول إليه، كون نتائجه الكارثية معلومة مسبقاً.
لم يكن خافياً على أحد الصراع القائم على تونس من الأقطاب العربية والإقليمية
تتحمّل حركة النهضة جزءاً من المسؤولية عما آلت إليه الأوضاع. وعلى الرغم من أنها أصبحت أحد الفاعلين في المشهد السياسي التونسي، ولم تعد الفاعل الأوحد والأساسي، بعد انتخابات 2019، إلا أنها افتقدت القدرة اللازمة للسير بتونس إلى أوضاع أفضل، فقد استهلكتها الصراعات، وخصوصاً مع الحزب الدستوري الحر الذي استطاع جرّ الحركة إلى قاع من السخافات والبذاءات، لا تليق بطرفٍ يحمل على أكتافه آمال قطاع عريض من الشعب التونسي يطمح إلى رؤية ثمار ثورة 14 يناير 2011.
واستهلكت "النهضة" محاولات الهروب من أفخاخ الدولة العميقة ومواجهة ألاعيبها. ولكنها مقابل ذلك لم تكن تملك مبادراتٍ خلاقة لتطوير تونس، اقتصادياً وسياسياً، وتلك مشكلة النخب العربية التي خرجت بعد الربيع العربي، والتي افتقدت إلى الفعالية، وهي العنصر الأكثر إلحاحاً في حالة البلدان العربية التي ثارت شعوبها على الأنظمة القديمة، وعدم الفعالية هذا كان إحدى أوراق القوّة ضدها بيد الثورات المضادّة.
لا شيء يعيق عودة تونس إلى حاضنة الاستبداد العربي، الأدوات متوفّرة، والظروف ملائمة، خطواتٌ صغيرة ويلج سعيّد بتونس إلى مجال الاستبداد، وبانسجام تونس مع محيطها، وخروجها من الحالة القلقة المتأرجحة التي ظلّتها عقداً، سيصبح الربيع العربي مجرّد ذكرى، ويصح حينها القول إن هذه المنطقة طاردة للديمقراطية ومعادية للحرية.