تونس .. استبدادٌ بلا نهاية قريبة

19 اغسطس 2022
+ الخط -

تعيش تونس ردّة مرعبة في مجال الحريات والحقوق. لم تعد السلطة الحاكمة تستثني أحدا من بطشها، لا قضاة، لا نواب (معلقة مهماتهم)، لا محامين، لا سياسيين ولا حتى صحافيين. والسلطة تعني هنا أولاً وثانياً وثالثاً وأخيراً الرئيس قيس سعيّد بعدما توّج نفسه ديكتاتوراً مطلق الصلاحية. 
 بالنسبة للرئيس، جميع هؤلاء أعداء يجب مجابهتهم لمجرّد أنهم لا يتخذون مواقف مؤيدة له وتوجهاته. ينهل سعيّد من قاموس الاستبداد الكثير الكثير. عملياً هو لا يجترح أي جديد. كل إجراءاته تقع في خانة "DÉJÀ VU" أي شوهِدت من قبل على صعيد المنطقة وما حولها. فللاستبداد آلياتٌ تعيد إنتاج نفسها وتعرّف عنه من دون كثير العناء. 
خلال أقل من 24 ساعة، كان يمكن قراءة أخبار تونسية من قبيل منع النائبة عن التيار الديمقراطي، أمل السعيدي، من تجديد جواز سفرها، بسبب وجود إجراء حدودي معروف بـاسم "أس 17". فهذا الاجراء المفترض أنه وضع في سياق مكافحة الإرهاب تحول إلى أداة ضد الخصوم السياسيين. وفي السياق نفسه أيضاً، جاء إصدار محكمة عسكرية حكماً بحبس الصحافي صالح عطية ثلاثة أشهر بعد تصريحاتٍ بشأن سعيّد والجيش. وقبل ذلك كانت الملاحقات بحق عدد من السياسيين والتحقيق معهم. ويجمع بين كل هؤلاء قاسم مشترك هو معارضة قيس سعيّد. وبعيداً عن كثير من اللغو في التبريرات، يبدو اليوم أن هذه "التهمة" كافية للملاحقة والتضييق على التونسيين.
يحدث ذلك كله تزامناً مع انتهاء مسارات الاعتراض على استفتاء الدستور، وبالتالي اعتماده، لتبدأ في تونس مرحلة أشدّ خطورة من كل ما مضى منذ بدء سعيّد إجراءاته الانقلابية في 25 يوليو/ تموز 2021. .. بموجب هذا الدستور الذي قاطعت الاستفتاء عليه الغالبية من التونسيين، والذي رفض سعيّد إخضاعه لتشاور مجتمعي واسع، فاستمر في إدخال تعديلات عليه حتى اللحظة الأخيرة قبل الاستفتاء، سيتغير النظام السياسي في تونس، ليكون على مقاس سعيّد حصراً. لا رئيس حكومة بصلاحيات حقيقية، بل مجرّد مساعد للرئيس يطبّق سياساته وقراراته. ولا برلمان لديه وظائف تشريعية بعد التعديلات التي أدخلها على نظامه وجعله ذا تركيبة مزدوجة (مجلس الشعب ومجلس الجهات والأقاليم) من دون أن يعطي أيّاً منهما سلطة فعلية. 
عملياً، كل شي يدور في فلك الرئيس. وتماماً كما فعل عند عرض الدستور على الاستفتاء واضعاً التونسيين الذين شاركوا أمام خيارات لا ثالث معهما، إما التصويت بـ"نعم" أو "لا"، ينحو إلى تطبيق ذلك على كل ما يرتبط بالحياة السياسية في عهده. مجرّد ثنائيات "مع" أو "ضد" لا خيارات أخرى أو حلول وسط. وحتى حديثه مساء الأربعاء، في إعلانه بدء الدستور، لم يتخلّ فيه عن هذا المسار عندما وصف اليوم بـ"التاريخي" ومن الأيام "الخالدة" في عهده، مشيراً إلى كثرتها بما في ذلك إجراءاته الانقلابية منذ 25 يوليو/ تموز 2021. وتحدّث عن الاستفتاء بصفته اليوم الذي تجسد فيه "التطابق بين الشرعية الدستورية والمشروعية الشعبية".
يظن سعيّد أنه يستطيع المضي في ذلك إلى ما لا نهاية. مغلفاً كل خطاب، أو تصريح، بقائمة من التعابير الشعبوية الطنّانة الرنانة، التي تطرَب لها مسامع أنصاره، لكنها في المقابل تدقّ ناقوس الخطر لفئات أخرى من التونسيين. كيف يتصور سعيّد ومن بقي معه من المؤيدين أن في وسع دستور إقصائي كهذا، وبلا شرعية شعبية حقيقية، أن يحمل الحلول لأزمات تونس.
على الأرجح، يدرك سعيّد أن هذا الدستور مرتبط به حصراً. ولذلك، إنهاء مفاعيله مرتبطة بقدرة القوى السياسية على إنهاء الانقلاب وإعادة المسار الديمقراطي. مهمّة لا تبدو يسيرة أو تتوفر لها الظروف للنجاح حالياً في ظل الخلافات التي لا تزال تحول دون وحدة القوى السياسية. وبانتظار حدوث ذلك، ستبقى تونس على موعدٍ يتجدّد مع فصول من الاستبداد.

جمانة فرحات
جمانة فرحات
صحافية لبنانية. رئيسة القسم السياسي في "العربي الجديد". عملت في عدة صحف ومواقع ودوريات لبنانية وعربية تعنى بالعلاقات الدولية وشؤون اللاجئين في المنطقة العربية.