تونس إلى نظام رئاسي أو رئاسوي؟

13 يوليو 2022
+ الخط -

تُصنّف الأنظمة السياسية حسب تطبيق مبدأ الفصل بين السلطات إلى أنظمة برلمانية تتميز بوجود تعاون بين السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية، وتكون فيها السلطة التنفيذية مقسّمة بين الحكومة التي يحق لها حل البرلمان الذي يمكنه سحب الثقة من الحكومة، ورئيس الدولة غير المسؤول سياسياً، وأنظمة رئاسية تتميز بالفصل المطلق بين السلطات الثلاث، والمعيار المميز لها فردية السلطة التنفيذية التي يتولاها رئيسٌ منتخب، وأنظمة شبه رئاسية تجمع بين النظامين الرئاسي والبرلماني، بحيث ينتخب الرئيس عن طريق الاقتراع العام، ويتمتع بسلطات خاصة، مع وجود وزير أول يسير الحكومة التي يستطيع البرلمان إسقاطها.

ما يدعو إلى استحضار هذا التصنيف مسودة الدستور التونسي الجديد التي يبدأ العدّ العكسي للاستفتاء عليها في أواخر شهر يوليو/ تموز الحالي، بعد نشرها في الجريدة الرسمية، لعل أهم ما فيها أنها تؤسس لنظام سياسي جديد في تونس، لا هو رئاسي ولا برلماني ولا شبه رئاسي، وإنما نظام يقدّم من خلاله الرئيس قيس سعيّد رؤية جديدة للحكم تخرج عن نظريات الحكم والديمقراطيات القائمة في العالم، وصفه بعض النقاد بـ"الجملكة" (الجمهوري – الملكي)، في حين وصفه آخرون بـ"الرئاسوي"، أو "الألترا رئاسي"، كونه يمنح الرئيس صلاحيات واسعة تضرب في مقتل مبدأ التوازن بين السلطات الثلاث المتعارف عليها في الأنظمة الديمقراطية.

يطيح مشروع الدستور التونسي الفصل بين السلطات ويؤسّس لنظام بلا ضوابط أو توازنات

تظهر القراءة المتأنية لمواد مسودة الدستور، وخصوصاً المتعلقة بصلاحيات السلطات الثلاث التي سمّيت، في هذه المسودة، بالوظائف، دلالة على تضاؤل مكانتها في النظام السياسي المقترح، أنّ مجمل السلطات تتركّز بيد الرئيس، فهو، من ناحية، يسيطر على السلطة التنفيذية كاملة من خلال مسؤوليته عن اختيار أعضاء الحكومة ورئيسها الذي تحوّل إلى مجرّد موظف لدى الرئيس، وعزلهم من مناصبهم ومراقبة أدائهم ومساءلتهم، وهو الذي يضبط السياسة العامة للدولة، إلى جانب مسؤوليته عن اتخاذ كل القرارات السياسية والاقتصادية الضرورية في إدارة دفّة الحكم، وهو القائد الأعلى للقوات المسلّحة ويسهر على تنفيذ القوانين ويمارس السلطة الترتيبية العامة، ويُسند باقتراح من رئيس الحكومة الوظائف العليا المدنية والعسكرية. ومن ناحية أخرى، يتسلط على السلطة التشريعية التي أصبحت مفرّغة من أي صلاحياتٍ حقيقيةٍ باستثناء المتعلقة بسن القوانين والرقابة المحدودة على الحكومة، مع حرمانها من حق مراقبة عمل الرئيس الذي له الحق في طرح مشاريع القوانين على مجلس النواب، لتكون لها الأولوية على المقترحات التشريعية الأخرى، وهو الذي يُقدّم مشاريع قوانين الموافقة على المعاهدات ومشاريع القوانين المالية، ويمارس حق الفيتو لردّ مشاريع القوانين المصادَق عليها من البرلمان، ويمارس سلطات الأزمة إثر إعلان حالة الاستثناء من دون أي رقابة في ما يخص المدّة، مع إعطائه حق حل البرلمان بغرفتيه، كذلك يتسلّط على السلطة القضائية التي حوّلها إلى مجرّد ذراع من أذرع السلطة التنفيذية بإسقاط مبدأ استقلالية النيابة العامة من خلال ربطها بالسلطة التنفيذية، ودوره في تعيين أعضاء المجلس الأعلى للقضاء وأعضاء المحكمة الدستورية العليا التي تُشكل من القضاة فقط، ومنحه صلاحية تسمية القضاة بمقتضى ترشيح من المجلس الأعلى للقضاء.

وبالتالي، يطيح مشروع الدستور الجديد هذا مبدأ الفصل بين السلطات، ويؤسّس لنظام سياسي جديد بلا ضوابط أو توازنات، وخصوصاً بعدما أزال سعيّد من المسودة الأولى للدستور، التي قدّمها له رئيس الهيئة الاستشارية لصياغة الدستور الصادق بلعيد، جميع الضوابط تقريباً على حكمه (حسب تصريحات بلعيد)، ليتحوّل الرئيس بذلك إلى "الحاكم بأمره" أو "الموظف الأعظم للدولة" بصلاحياتٍ مطلقة، باعتباره صاحب الكلمة الأولى والأخيرة في الدولة، ويتحكّم في كل مفاصلها، ولا يُسائله أحد، في حين أن الجميع مسؤول أمامه، مقابل حكومةٍ لا تتمتّع بأي سلطة تنفيذية حقيقية يتمثّل دورها في أن تنفذ ما يأمرها به رئيس الدولة، وبرلمان عاجز، وظيفته مجرّد المصادقة على القوانين، مع حجب الدور الرقابي على الجهات التنفيذية عنه، وقضاء مقلمة أظافره تابعاً للرئيس بشكل من الأشكال، ليكون بذلك هذا النظام رئاسيا من ناحية الشكل، و"رئاسويا" من ناحية الممارسة، يختل فيه التوازن بشكلٍ واضحٍ بين السلطات لصالح رئيس الجمهورية الذي يجمع في آن معاً صلاحيات الوزير الأول في النظام البرلماني، وصلاحيات رئيس الدولة في النظام الرئاسي الذي تكاد تنفرد به الولايات المتحدة في شكله المعتدل والمتوازن، بعد فشله في دول عديدة، وانحرافه إلى نظام الرئيس "الرئاسوي" يتسلط به الرئيس ويتغوّل على بقية السلطات.