تونس… التجربة الديكتاتورية
لم يعد ينقص الرئيس التونسي قيس سعيّد إلا إطلاق الرصاص الحي على معارضيه أو قصفهم بالبراميل، ليكرّس نفسه واحداً من رموز الاستبداد في المنطقة العربية، فهو يفعل الآن كل ما في وسعه لقطع أي صلة بين تونس والمسار الديمقراطي الذي كانت تسير عليه، والذي أوصله إلى السلطة. مسار يعلم سعيّد أنه نفسه الذي يمكن أن يطيحه من كرسي الحكم في حال سمح بإجراء أي انتخاباتٍ رئاسية، وهي المرتقبة في 2024، لكن مصيرها لا يزال مجهولاً في ظل اجراءاته الديكتاتورية المتصاعدة.
الانتخابات التشريعية أخيرا، والتي قاطعتها غالبية الشرائح السياسية والاجتماعية في تونس، أعطت سعيّد فكرة عما قد يكون عليه الحال في الانتخابات الرئاسية، فإذا كانت المقاطعة في الانتخابات التشريعية قد أفلحت في جعل نسبة التصويت لا تتخطى 8%، وهي نسبة غير مسبوقة في تاريخ الانتخابات عالمياً، فإن الوضع سيكون معكوساً عند التصويت على هوية قاطن قصر قرطاج، فقد جسّدت هذه النسبة حالة الغضب الشعبي من حكم سعيّد، وتحديدا بعد انقلاب 25 يوليو، وتفرّده المطلق بالسلطة، ويمكن أن تترجم بشكل مختلف، في حال سمح سعيّد للانتخابات الرئاسية بأن تجري في موعدها، وهو أمرٌ مشكوك فيها، بعدما منح الرئيس لنفسه، في الدستور الذي ألفه وصادق عليه في استفتاء بنسبة تصويت ضئيلة لم تتخط 30%، حقّ إعلان الطوارئ اعتباطياً وبقرار فردي. إذ نصّ على أنه من حق الرئيس إعلان حالة الطوارئ في حال وجود "خطر داهم"، وهو خطرٌ يحدّده الرئيس فقط من دون أيّ رقابة من الهيئات الأخرى، ومن دون أيّ حدّ زمني، على عكس الرقابة التي كانت تمارسها المحكمة الدستورية في دستور 2014 الذي ألغاه سعيّد، حين كان للمحكمة الحقّ في مراجعة حالة الطوارئ بعد 30 يوماً على إعلانها.
يبدو أن الرئيس التونسي يحضّر لسيناريو كهذا، بعدما بات على يقين بأن الحالة الشعبية التي أوصلته إلى قصر الرئاسة، والتي كانت قائمة بالأساس على الغضب من الحركات السياسية، لم تعد موجودة، وأن الشعبوية التي اعتمد عليها لحشد الأصوات لم يعد يعوّل عليها، بعدما حوّلها إلى حالة من التهريج والأداء المسرحي الركيك الذي سمح لكثيرين بمقارنته بالزعيم الليبي الراحل معمر القذافي.
قد تكون حملة القمع والاعتقالات التي ينفّذها الرئيس التونسي اليوم جزءاً من السيناريو الذي يحضّر له. إذ يبدو أن سعيّد يتقصّد تصعيد الغضب الشعبي ضد ممارساته، تمهيداً لزيادة الحركات الاحتجاجية، وربما إخراجها عن مساراتها السلمية، الأمر الذي يجعله قادراً على إعلان حالة الطوارئ، إذ ستكون هذه الاحتجاجات هي "الخطر الداهم" الذي ضمّنه سعيّد في دستوره، وهو خطرٌ لا يستهدف غيره، بعدما فشل في كل الوعود التي أطلقها، قبل توليه الرئاسة التونسية وبعده، وبات الوضعان السياسي والاقتصادي في أسوأ حالاتهما، فيما ساهم تشتت المعارضة التونسية وانقسامها، رغم الحاجة الملحّة إلى الوحدة في ظل الظروف الاستبدادية التي خلقها سعيّد، في تعزيز تفرّد الأخير بالحكم.
ورغم الإجراءات القمعية الكثيرة التي اتخذها الرئيس التونسي، إلا أن المعارضين، مستندين إلى إرث ثورة 2011، تمكّنوا من فتح ثغرة في جدار القبضة الأمنية، وواصلوا الحركات الاحتجاجية اليومية ضد الرئيس وقراراته. اليوم يبدو أن سعيّد في طريقه إلى سدّ هذه الثغرة، تمهيداً لتكريس الديكتاتورية وحكم الفرد وإسكات كل الأصوات المعارضة لأي خطوة يُحتمل أن يقوم بها، وصولاً إلى تأبيد حكمه، حاله حال كل الأنظمة الديكتاتورية التي يعمل على التصالح معها، وجديدها أخيرا النظام السوري، وربما الاستفادة من "تجاربها" لنقلها إلى تونس.