تنكّر السياسيون لذكرى فبراير وأحياها الليبيون
لم يكن 17 فبراير / شباط 2011 يوما عاديا في تاريخ المواطن الليبي، فقد كان بداية لانتفاضة عارمة ضد نظام حكم ظل جاثما على صدره أكثر من أربعة عقود، انتفاضة لم يكن أكبر المتفائلين يتوقع نجاحها في إسقاط حاكم أحكم سيطرته على كل مؤسسات الدولة وطوّعها من أجل استمراره في الحكم. انطلقت شرارة هذه الانتفاضة في مدينتي بنغازي والبيضاء في الشرق الليبي والزنتان في غربه، وسرعان ما انتشرت في عدّة قرى ومدن ليبية، رغم القبضة الأمنية التي فرضت على أي تحرّك شعبي، وازدادت أعداد المتظاهرين، إلى أن كُسر حاجز الخوف الذي كان مسيطرا سنوات. بدأت هذه الانتفاضة بتحرّكات سلمية، فلم يكن يسمح للمواطن الليبي بامتلاك أي نوعٍ من الأسلحة، بما فيها أسلحة الصيد، وقد كان يعاقب من يمتلكها بالسجن مدة لا تقل عن أربع سنوات ومصادرة السلاح، غير أن المتظاهرين اُجبروا على امتشاق السلاح دفاعا عن أنفسهم بعد تزايد أعداد القتلى في صفوفهم، وخصوصا في مدينة بنغازي، الأمر الذي أدخل هذه الانتفاضة إلى دائرة الفوضى المسلحة التي أدّت إلى مقتل المئات من الطرفين خلال الأسابيع الأولى من الحراك، الأمر الذي وجدته الدول الغربية فرصة سانحة للتدخل العسكري الذي جرى تحت غطاء قرار مجلس الأمن رقم 1973، والذي صدر في 17 مارس/ آذار 2011، أي بعد أكثر من شهر من بدء الانتفاضة، مدة عجز فيها النظام عن الوصول إلى تسويةٍ مع الأصوات التي كانت تطالب بالإصلاح، قبل أن يرتفع سقفها للمطالبة برحيله. وقبل الاتفاق بين الدول التي صوّتت لصالح القرار على الطريقة التي سيتم بها التدخل في ليبيا لحماية المدنيين كما جاء في القرار، شنّت الطائرات الفرنسية غارات أصابت الرتل الضخم الذي كان على تخوم مدينة بنغازي، والذي امتد إلى أكثر من 50 كيلومتراً، وأفشلت بالتالي عملية عسكرية كبيرة كانت تهدف إلى إرجاع مدينة بنغازي إلى بيت الطاعة وإجهاض الانتفاضة فيها.
فشل متصدّرو المشهد في الوصول بالبلد إلى الاستقرار والأمان والرفاه الاجتماعي
نجحت الانتفاضة الشعبية، ولكن ثمنها كان كبيرا جدا، حيث استشهد كثيرون، وتزايدت أعداد الجرحى، وبترت أطراف مجموعات كبيرة، ودمرت منازل ومبان خاصة وعامة، وتضرّرت بنية تحتية كانت أصلا متهالكة، وانتهت بمقتل معمّر القذافي في مسقط رأسه في مدينة سرت التي لجأ إليها بعد أن فشل في مواجهة الغارات الجوية والبحرية لحلف الناتو، والذي استخدم فيها ما يمكن استخدامه لإضعاف قدرات نظامٍ أنفق المليارات من أجل التسلح، قتل القذافي بمساعدة القوات الغربية، ولكنه نجح في تنفيذ تهديداته بتحويل ليبيا إلى حرب ودمار وجهنم كما جاء في أحد خطاباته في بداية الانتفاضة.
كان هذا التاريخ (17 فبراير/ شباط) حدثا مفصليا في تاريخ ليبيا، غير أن السنوات التي تلت ذلك عجزت عن تحقيق ما كان يصبو إليه اللبيبون، وفشل متصدّرو المشهد في الوصول بالبلد إلى الاستقرار والأمان والرفاه الاجتماعي، وأخفقت الحكومات المتتالية التي تعاقبت على إدارة البلاد في تحقيق طموح الأبطال الذين ضحّوا بأنفسهم من أجل التغيير الذي كان ينشده ويترقبه الجميع، بل وساهمت معظم هذه الحكومات في التفنّن في إيجاد نقاط اختلافٍ تساعدهم على البقاء في السلطة والاستفادة ما يمكنهم من ذلك. وبالتالي، المحافظة على كرسي، لطالما انتقدوا القذافي على التشبث به، وكثيرون ممن كُلّفوا بهذه الحكومات لم يشاركوا في انتفاضة فبراير، ولم يكونوا من صنّاعها، بل حاول بعضهم، بكل ما يملك، إفشالها، لأنه كان نافذا في ذلك النظام، وكان أحد أسباب بقائه كل هذه المدة، وآخرون كانوا يقتاتون على معارضتهم نظام الحكم من الخارج، ولم يجازف أي منهم بالمجيء إلى ليبيا إلى أن أطمأن بأن الأمور لن تعود كما كانت، وأن نظام القذافي انتهى. عندها فقط رجع كثيرون، بعضهم طالبا لمنصب أو جاه، وطالب آخرون بمقابل مادّي لمعارضته. سياسيون وحذاق اقتنصوا الفرصة، أتوا فجأة وبدون مقدّمات، ومن أُجبر على المغادرة منهم لم يترك وراءه أي أثر إيجابي أو فعل وطني حسن، يمكن أن يتذكّره الناس به، فجميعهم سار ويسير بالبلاد على غير هدى، وبدون استراتيجية أو رؤية حقيقية تخرّجها من النفق الذي أُدخلت فيه بفضل تشبثهم وتغليبهم مصالحهم الشخصية الضيقة على مصلحتها العليا، بلاد كأنها تعاقب على تمرّدها على نظامٍ يئست من صلاحيته وتوسّمت خيرا فيمن سيأتي بعده، قبل أن تجد نفسها "كالمستجير من الرمضاء بالنار".
ستظلّ انتفاضة فبراير حدثاً في ليبيا حمل معه آمالاً وطموحاتٍ وخضبت بدماء شهداء ونضالات شرفاء
تأتي هذه المناسبة على الليبيين، والجميع يدرك أن البلاد في مأزق، وأن المبادرات والاجتماعات واللقاءات التي لا تكاد توجد عاصمة عربية أو غربية إلا واستضافتها، والتي رغم البيانات التي تصدُر عنها بشأن اتفاقهم لا تعدو سوى أنها اتفاق على إطالة عمر الأزمة، وما أن يرجع كل طرفٍ إلى كرسيّه الذي يتمترس خلفه رافضا التخلي عنه حتى يفنّد تلك المزاعم والبيانات التي تنقل خبر الاتفاق، ويلقي اللوم على الطرف الآخر، واصفا إياه بالمعرقل. يكرّر جميعهم العبارات الرنانة نفسها والوعود المعتادة في زهده في السلطة، وحرصه على تسليمها لجسم شرعي منتخب، وهو يعلم، كما يعلم غيرُه، أن لا أحد من كل الأجسام الموجودة يملك الشرعية التي يتحجّجون بها في مسرحية سمجة، لم تعد تنطلي على أحد.
وفي السياق نفسه، وإمعانا في الظهور بالمحافظة على هذه المناسبة، والعمل على تحقيق أهدافها، تحرص حكومتا الشرق والغرب على الاستعداد للاحتفال بها، وتشكيل لجان سيلت لها الأموال والإمكانات الكبيرة، واستدعت لإحيائها فنانين بمبالغ ستجعلهم مبتهجين بهذه المناسبة أكثر من صنّاعها، خصوصا أن كثيرين منهم ممنوعون من الغناء في بلده، لأن نقابة الفنانين لم تُجز فنه وزيّنت الشوارع واستوردت أعلاما وطنية وأسراب إضاءة، ولكنها لم تعد تسرّ الناظرين من الليبيين، لأن كثيرين منهم لم يستلم مرتبه الذي لم يعد يُسمن ويغني من جوع. وطرد أبناء كثيرين أو أقاربهم المصابين بالأورام، والذين يعالجون في مشافي الأردن ومصر وتونس، لعدم تسديد الحكومات المتعاقبة مستحقّات هذه المشافي. ونسبة معتبرة ينتظرون أوهاما أتقنت هذه الحكومات توزيعها عليهم من وعودٍ بتوزيع منازل وشقق إلى قروض سكنية واجتماعية إلى بعثاث دراسية إلى غيرها من الوعود التي لم ينفّذ منها شيء في الوقت الذي سيطرت عائلات متصدّري المشهد وأقاربهم على كل مفاصل الدولة داخلها في شركات الاستثمار والمصارف وخارجها في السفارات والملحقيات. ومع هذا وذلك، ستظلّ انتفاضة فبراير حدثا حمل معه آمالا وطموحاتٍ وخضبت بدماء شهداء ونضالات شرفاء، وأنه لابد لها من تحقيق أهدافها مهما تنكّر لها السياسيون.