تقرير كولونا... عنزة ولو طارت
تقرير لجنة تقصّي الحقائق المستقلة التي ترأستها وزيرة الخارجية الفرنسية السابقة كاترين كولونا، حول وكالة أونروا للتثبت من حيادها، على ضوء الحملة الإسرائيلية المسعورة ضدها، يثبت أموراً كثيرة. أول ما يؤكّده أن المجتمع الدولي يمكن أن يكون صاحب عينين مفتوحتين على الحق، ويمكن أن يرفض مسايرة كذب إسرائيل وجرائمها وسياساتها العدوانية. يُقال ذلك رغم إصرار المعادين للغرب، ظالماً كان أم مظلوماً، على وضع ذلك المجتمع الدولي بين مزدوجين عريضين يُقفلان الباب على العالم الرحب، ويفتحان شهيّة العيش على جزيرة معزولة لا يقطنها إلا المتشابهون. ثاني ما يثبته التقرير أن هذا الغرب ليس كتلة صمّاء متراصّة، وأنه يتيح مجالات شاسعة للاختلاف وللمشاكسة ولحرية التفكير والتعبير رغم كل العيوب القمعية التي تعتري تجارب ديمقراطية غربية نشاهد منها أمثلة بالمئات على هامش الإبادة الإسرائيلية الحالية في غزّة. التقرير الذي سرّبت صحيفة الغارديان البريطانية يوم الاثنين أجزاء من خلاصاته وتوصياته قبل أن يصدر كاملاً في اليوم نفسه (الاثنين)، يفضح مصفوفة الأكاذيب الإسرائيلية التي تبنّتها مجموعة من البلدان الغربية بعد عملية "حماس" في السابع من أكتوبر، وقطعت على أساسها تمويلها عن وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين.
ولجنة التحقيق التي باتت تُسمى اختصاراً "لجنة كولونا"، تجسد الغرب بامتياز. مقرّرتها فرنسية، وليست أي فرنسية، بل وزيرة خارجية صارت تسمى "سابقة" فقط منذ التاسع من يناير/ كانون الثاني 2024، أي أنها كانت شخصية أساسية في الاصطفاف إلى جانب إسرائيل بعد صدمة "طوفان الأقصى"، وساهمت بفعالية في الترويج لرواية بدء تاريخ الصراع في السابع من أكتوبر فقط، ليصبح هجوم "حماس" سبباً لا نتيجة، أو نتيجة للإرهاب الفلسطيني حصراً، لا ردة فعل، وإن كانت عدمية ونتائجها كارثية، على عقود من الاحتلال والاضطهاد والأبارتهايد. ومراجعة الوزيرة الفرنسية السابقة استندت إلى تقييم مفصّل قدمته ثلاث هيئات بحثية غربية جداً، وهي معهد راؤول والنبرغ في السويد، ومعهد ميشيلسن في النرويج، والمعهد الدنماركي لحقوق الإنسان لتأتي النتيجة واحدة: إسرائيل تكذب في كل اتهاماتها لـ"أونروا". ليس هناك دليل على انتماء أي موظف من غزة في الوكالة (عددهم 13 ألفاً) إلى "منظمة إرهابية"، والمقصود حركتا حماس والجهاد الإسلامي. وجدت كولونا ومساعدوها ضرورة لكشف أن "أونروا" تزوّد إسرائيل منذ 2011 بلائحة بأسماء جميع موظفيها "من أجل التدقيق"، وأن الحكومة الإسرائيلية "لم تبلغ أونروا يوماً بأي قلق يتعلق بأي موظف".
الكذبة الإسرائيلية الثانية التي وجب فضحها في تقرير كولونا مفادها أن الكتب التعليمية المعتمدة في المدارس التي تديرها "أونروا" تتضمّن محتوى معادياً للسامية. استعان فريق الوزيرة بتحقيقات سابقة (كلها غربية) أجريت حول الموضوع وخلص إلى وجود بعض "المحتوى العدائي"، لكن لا شيء يشير إلى معاداة السامية. أحد المعاهد الألمانية (معهد جورج إيكرت) وجد مثالين فقط يعاديان السامية من 156 كتاباً مدرسياً، تمت إزالة أحدهما في الماضي وتغيير الآخر. إذاً، لا معاداة للسامية في المدارس الفلسطينية.
أمام تقرير لا تشوب غربيته أي شائبة، لم يكن يتوقع من حكام تل أبيب إلا أن يقدموا على قفزة تصل بهم إلى طابق أعلى من الكذب. عقّب وزير الخارجية يسرائيل كاتس على التقرير قائلاً إن "2135 موظفاً من أونروا أعضاء في حركتي حماس والجهاد الإسلامي، وخُمس مدراء مدارس أونروا أعضاء في حماس". أصاب كاتس بقدر ما فعل سياسي لبناني شهير حاول إقناع وفد من زوّاره البسطاء بأن العنزة لا تطير، فرووا له أن ضابطاً في الاستخبارات السورية من حكام لبنان قبل عام 2005 أخبرهم مرّة بأن العنزة بإمكانها أن تطير، فما كان من السياسي اللبناني ذاك إلا أن عدّل فتواه لتصبح "العنزة تطير لكنها لا تعلّي كثيراً". أما عند الإسرائيليين هذه الأيام، فإن العنزة لا تطير فحسب، بل تتكلم وتجد كثيرين ممن يظنون أن ثغاءها تحفة موسيقية.