تفكيك التركيبة والشبكات الاجتماعية هدفاً إسرائيلياُ لليوم التالي للحرب في غزّة
منذ إعلانها الحرب على غزّة، حدّد رئيسُ وزرائها، بنيامين نتنياهو، هدفين رئيسيين: ضرورة القضاء على حركة حماس وتحرير المحتجزين الإسرائيليين. ووفقًا لهذا، أُعلنتْ بعض الأهداف الأخرى كإزالة "حماس" من الحكم، وضمان أنّ الجماعات المسلحة في غزّة لا تستطيع تهديد إسرائيل مرّة أخرى، وتدمير البنية التحتيّة والمدنيّة للمُقاومة الفلسطينية. ومع ذلك، مع تواصل الحرب، تتكشّف لدينا أهداف أخرى، تعملُ إسرائيل على فرضها على أرض الواقع، من خلال تركيز عملياتها العسكرية الكبيرة ضدَّ الأهداف المدنيّة عن طريق التدمير المُمنهج والكامل لعديد من الأحياء والمخيّمات الفلسطينية في قطاع غزّة. دمّرت قوات الاحتلال ما يزيد عن 70% من المباني السكنية في المنطقة، منها أحياء كاملة في خانيونس وحي الشيخ رضوان والشجاعية ومخيم جباليا وجباليا البلد وبلدة بيت حانون والمغراقة وشمال النصيرات، حسب إحصائيّاتٍ عديدة من جهاتٍ مختلفة.
تندرجُ عمليةُ التدمير المُمنهج والكامل ضمن نظرة إسرائيل إلى اليوم التالي في غزّة، والتي كتب عنها مجموعة من الباحثين في مراكز البحث والجامعات الإسرائيلية (مركز ديان، جامعة تل أبيب، جامعة بار- إيلان ومركز بيغن - السادات، الجامعة العبرية في القدس) في وثيقةٍ بدأ البحث فيها في بداية فبراير/ شباط 2024 ونُشرت في الشهر الماضي (يوليو/ تموز) بعنوان "التحوّل وإعادة تأهيل غزّة بعد حماس"، حيث وضع التدمير الممنهج هدفاً لتفكيك الشبكات الاجتماعية وخلخلةِ النسيج المجتمعي التي تعتمد عليها المقاومة الفلسطينيّة في بُنيتها التحتية، ومن ثم بناء أحياء سكنية منظّمة بديلة لا تشكّل بؤراً اجتماعية وعائلية، كما هو الواقع الحالي في قطاع غزّة. إضافة إلى ذلك، يتضمّن الهدف الآخر من تدمير المخيّمات دفع وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) التي تقدّم الخدمات التعليميّة والصحيّة في هذه المخيّمات وخارجها إلى الوراء ضمن الحرب المعلنة والمستمرّة ضدَّ هذه المنظّمة الأممية للقضاء عليها.
وترى إسرائيل أنّ مخيمات اللاجئين تُشكّل القاعدة الاجتماعية والتنظيمية والسياسية، وحتى الأيديولوجية لحركة حماس. كما تعدّ المخيّمات، وفقاً للعقلية الإسرائيلية، بيئةً صعبةً لفرض تحوّلات أيديولوجية أو اجتماعية. هذا إلى جانب أنّ طبيعة الكثافة السكانية والمتنوّعة للمخيّمات تجعل من الصعب القيام بعمليات وقائية من الإرهاب والتطرّف. خير دليل على ذلك، ما أوصت به الوثيقة المذكورة سابقاً بتدمير بنية المخيّمات من الأساس، وبناء أحياء منظمّة مكانها، تضمن ظروفاً معيشية لائقة، والتي ستعود إليها العائلات الغزّية. وهذا ينطبق بشكلٍ خاص على منطقة المخيّمات الوسطى، ولكن أيضاً على مخيّمات اللاجئين في بقية مناطق القطاع.
يعمل الاحتلال على تدمير بنية الأسرة الفلسطينية وتفكيكها، بالقتل أو التشريد
عند الحديث عن الشبكات الاجتماعية في غزّة، يُقصد بها الروابط الأسرية والعشائرية، الحي السكني، والمسجد، والحركات الشبابية. وأهمية هذه الشبكات في أنّها تُشكّل هيكلاً اجتماعياً سياسيّاً غير رسمي، يخلق الثقة والولاء بين أعضائها، ويخدم فصائل المقاومة الفلسطينية مباشرة. ومن خلال هذه الشبكات، قد تجنّد فصائل المقاومة القوى العاملة وتدير شؤونها المدنية والعسكرية بشكلٍ مستمر. وعلى هذا الأساس، تعمل إسرائيل على تفكيك وخلخلة التركيبة والشبكات الاجتماعيّة خلال الحرب حسب الوثيقة عبر خمس طرق رئيسية:
أولاً: أوامر الاخلاء والنزوح القسري المتكرّرة للسكان إلى مناطق الإيواء المؤقتة التي يحدّدها الجيش الاسرائيلي، ما يكسر العلاقات الجوارية التي تعتمد عليها الشبكات والتقسيم الجغرافي التقليدي لقطاع غزّة. وقد اعتبر مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان أوامر الإخلاء "مروّعة"، حيث صدرت بحق المدنيين "الذين جرى تهجير كثيرين منهم قسراً عدة مرات، ونزوحهم إلى مناطق تشهد عمليات عسكرية للجيش الإسرائيلي وتسجّل فيها حالات قتل وإصابة لمدنيين".
تحاول إسرائيل إثارة سكان القطاع ضدَّ حماس وإحداث فتنٍ داخلية فيما بين العائلات
ثانياً: تدمير المنازل والمباني العامة والبنية التحتية، ما يصعّب على السكّان إعادة بناء الشبكات الاجتماعية بعد المعارك، نظراً إلى جعل عديد من الأحياء أو أجزاء منها غير صالحة للسكن. وقد ذكر مفوّض الأمم المتّحدة السامي لحقوق الإنسان، فولكر تورك، إنّه منذ أواخر أكتوبر/ تشرين الأول 2023، جرى تسجيل عملياتِ تدميرٍ وهدم واسعة النطاق من قوات الجيش الإسرائيلي للبنية التحتيّة المدنيّة وغيرها، بما في ذلك المباني السكنية والمدارس والجامعات في المناطق التي لا قتال فيها أو التي لم يعدْ فيها قتال. حدثت عمليات الهدم هذه أيضاً في بيت حانون في شمال غزّة، والشجاعية في مدينة غزّة، ومخيّم النصيرات في وسط غزّة. وقد جرى الإبلاغ عن عمليات هدم في مناطق أخرى أيضاً، مع ورود تقارير عن تدمير مبان ومربّعات سكنية عديدة في خانيونس. ولم تقدّم إسرائيل أسباباً مُقنعة لهذا التدمير الواسع للبنية التحتيّة المدنيّة. يفاقم هذا التدمير للمنازل وغيرها من البنى التحتيّة المدنيّة الأساسية، نزوح المجتمعات التي كانت تسكن في تلك المناطق قبل تصاعد الأعمال العدائية، ويبدو أنه يهدف أو يؤدّي إلى جعل عودة المدنيين إلى هذه المناطق مستحيلة.
ثالثاً: قتل عشرات الآلاف من سكان القطاع، غالبيّتهم من المدنيين، ما يؤدّي إلى ديناميات جديدة على جميع المستويات: الأسرية، والعشائرية، وبين التنظيمات. حيث أكّد المختصّون النفسيون والاجتماعيون، خطورة الحرب الإسرائيلية على النسيج الاجتماعي والتفكّك الأسري، مشيراً إلى أنّ الاحتلال يعمل على تدمير بنية الأسرة الفلسطينيّة وتفكيكها، بالقتل أو التشريد.
تزعم الرؤية الإسرائيلية أنّ أحد أهم الحلول لإعادة تأهيل وإعمار قطاع غزّة هو تفكيك الشبكات المحلية والخدمية التي تسيطر عليها حركة حماس
وقد بدأت فعلاً تتنامى المشكلات الصحيّة والنفسيّة الناتجة من الضغوط التي تتعرّض لها العائلات في غزّة نتيجةً لهذه الحرب، فمئات الآلاف من العائلات تفكّكت وأصابها الانهيار، حسبما أشار إليه أحد الأخصائيين النفسيين والاجتماعيين من غزّة. كما أنّ آلافاً لا يعرفون شيئاً عن أبنائهم أو أخواتهم أو أقربائهم. وقد تسبّبت الحرب الوحشية التي تخوضها إسرائيل ضدَّ سكان غزّة بعدم قدرة العائلات على التواصل مع بعضهم بعضاً، مشدّداً على أنّه سيكون لحالة التشرّد تأثير نفسي سلبي على المديين، البعيد والمتوسّط. وثمّة عائلات لا تستطيع التواصل مع بعضها بعضاً فترات طويلة، وهناك من لا يعلم شيئاً عن أقاربه أو عائلته منذ بداية الحرب، لافتاً إلى "أن الحرب ستُفرز آلاف المفقودين"، وهو ما تعمل إسرائيل عليه ضمن هدفها في تفكيك الشبكات والتركيبة الاجتماعيّة لسكان قطاع غزّة.
رابعاً: إضعاف قدرة "حماس" على الحفاظ على السيطرة الأمنيّة المركزيّة والمدنيّة المحليّة، وتشتيت هياكلها ميدانيّاً وتفريقها إلى مناطق مختلفة. أحد الأمثلة، ما قامت وتقوم به إسرائيل خلال الحرب بالتواصل مع بعض العشائر للتعاون في مشروعاتها التجريبيّة لإيجاد بديل لـ"حماس"، ضمن خطة مدروسة بعناية لتفكيك المجتمع الفلسطيني. وحسب اللواء المتقاعد إيلاند، رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي سابقاً، ويعمل مستشاراً للحكومة الحالية، في عموده المنتظم في صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية في 29 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، حثّ إيلاند إسرائيل على إلحاق "ليس فقط الدمار في مدينة غزة، بل كارثة إنسانية وفوضى حكومية شاملة [فقط هذا السيناريو – التدمير الكامل لجميع الأنظمة في غزّة ومعاناة يائسة]، من وجهة نظره، "سيحقّق النصر". وفي 19 نوفمبر/ تشرين الثاني من العام نفسه، حثّ الحكومة على مواصلة حصار قطاع غزّة، مشدّداً على أنّ "الأوبئة الشديدة في جنوب قطاع غزّة ستقرّب النصر، وستقلّل من عدد ضحايا جيش الدفاع الإسرائيلي".
خامساً: إحداث أزمة إنسانية ومجاعة تؤدّي إلى مظاهر الفوضى، مثل نهب المواد الغذائية والمساعدات الإنسانية، والنزاعات المجتمعية والعائلية العنيفة. وقد أدّى ذلك كلّه إلى أزمةٍ إنسانيّةٍ عميقة ومجاعة، تسبّبت بتفشّي مظاهر الفوضى داخل المجتمع، مثل نهب المواد الغذائية والمساعدات الإنسانية، والنزاعات المجتمعية والعائلية. وقد ذكر مدير شؤون إسرائيل وفلسطين في "هيومن رايتس ووتش"، عمر شكار، أنّ إسرائيل تمنع الغذاء والمياه عن المدنيين أكثر من شهرين، وهي "سياسة حثّ عليها مسؤولون إسرائيليون كبار أو أيّدوها وتعكس نية تجويع المدنيين أسلوباً من أساليب الحرب". لقد فرضت إسرائيل حصاراً لم تخفّفه على نحو كافٍ منذ ذلك الحين. وثمّة أسبابٌ كثيرة لذلك، منها محاولة إثارة سكان القطاع ضدَّ حركة حماس وإحداث فتنٍ داخلية فيما بين العائلات.
إذا نجحت إسرائيل في تحقيق التفكّك الاجتماعي في غزّة قد يخدمها أيضاً بوصفها نموذجاً للضفة الغربية
ونخلص بأنّ الرؤية الإسرائيلية تزعم أنّ أحد أهم الحلول لإعادة تأهيل وإعمار قطاع غزّة هو تفكيك الشبكات المحلية والخدمية التي تسيطر عليها حركة حماس، وإيجاد بديل يمنع من تكرار الوجود البنيوي الاجتماعي والسياسي لها وباقي فصائل المقاومة الفلسطينية. والسعي إلى تحقيق تشتّت جغرافي كبير قدر الإمكان للهياكل العائلية المتداخلة في عملية إعادة التوطين التي ستجري بعد الحرب. سيجعل هذا التشتّت من الصعب على الحركة إعادة تأسيس نفسها على الشبكات التقليدية التي كانت تعتمد عليها قبل الحرب، حسب الوثيقة الإسرائيلية. كما تفترض الوثيقة الإسرائيلية أيضًا أنّ الشبكات الاجتماعية ستسعى، في أعقاب المعارك، إلى إعادة التنظيم على نحوٍ أكثر حيويّة، وسيسعى السكان إلى العودة إلى بيئتهم السابقة وإعادة بناء حياتهم. ومن المفترض أنّ "حماس" ستعمل على تجديد آلياتها وشبكاتها. ولذلك، تعطيل النظام الاجتماعي هام جدّاً، ففي حال نجاح فكرة التفكيك سيتم إيجاد نظام اجتماعي جديد في غزّة وتنشأ بنية تحتية لنمو مجتمع معتدل وغير عنيف، وفي حال فشلت فكرة التفكيك تتدهور غزّة إلى الفوضى التي تفرِّخ قوى عنيفة من داخل "حماس" أو تنظيمات جديدة أخرى.
يمكن القول أيضا إنّ الحكومة الإسرائيلية نفسها لم تضع أو تعلن بعد عن خطة اليوم التالي. ولكن، إذا أردنا الحصول على مؤشّر جيّد على التفكير الإسرائيلي، يمكن النظر في هذه الوثيقة والتقارير التي تصدر من مراكز بحثية وجهات سياسيّة وعسكريّة سابقة، والتأكّد من أن صنّاع القرار ينفذون الخطة بحذافيرها. حيث تفترض إسرائيل الهزيمة الكاملة للمقاومة في غزّة وخضوع القطاع لحكم الاحتلال وسيطرته وتتعامل مع سيناريو اليوم التالي والخطط والأهداف والوسائل وفقًا لذلك.
وأخيراً، ينبغي لفت الانتباه، أنّه حتى تنجح الخطط التي تذكرها، يفترض أن تكون هناك حاجة لاحتلال مباشر طويل الأمد لقطاع غزّة، وإذا نجحت إسرائيل في تحقيق التفكّك الاجتماعي في غزّة قد يخدمها أيضاً بوصفها نموذجاً للضفة الغربية. لكن الوثيقة التي تنفّذ إسرائيل توصياتها وتسوقها للعالم تجهل طبيعة الشعب الفلسطيني وتركيبته الاجتماعية والدينية المحافظة المبنية على التكاتف والتعاضد واحتضان الأيتام والأرامل والجرحى والمكلومين وصمود المجتمع في كلّ مرّة بعد الحروب السابقة على غزّة. فحتى لو جرى تفكيك تلك التركيبة في مناطق محدّدة، وتمّ محو وتدمير مُمنهج لأحياء ومخيّمات، ستتشكّل، بأسرع ممّا تتوقّع إسرائيل ومخطّطوها وباحثوها، تركيبات اجتماعيّة جديدة تُولد من رحم الألم، ومن بين الركام، بحثاً عن الحياة والخلاص من الاحتلال الجاثم على أرضهم، فالتاريخ الفلسطيني والثورات المتعاقبة والانتفاضات المتتالية كانت دائماً مثالاً حيّاً على ثقافة النهوض من جديد والتطلّع إلى الحرية والحياة.