تغييب للحرّيات وحضور لـ"الناتو" في الأردن
ما يحدُث في الأردن في الآونة الأخيرة من اعتقالات وتقييد للحريات يعيد البلد إلى الوراء، ما يثير القلق من أن هناك قراراً بالاستمرار بالتماهي مع السياسة الأميركية المشاركة في حرب الإبادة الصهيونية ضد الفلسطينيين وسط استهتار إسرائيلي بمخاوف الأردن على أمنه واستقراره. وإلّا، فكيف نفهم افتتاح مكتب للتنسيق لحلف شمال الأطلسي (ناتو) في عمّان، وفي الوقت نفسه، استمرار الاعتقالات السياسية؟ خصوصاً أن عمليات التوقيف والاعتقال استهدفت من ينتقد استمرار التطبيع مع الدولة الصهيونية والتضامن مع أهل غزّة وفلسطين. فمهما كانت الحجج وراء الاعتقالات، فإن ما يجمع جميع الموقوفين والمحكومين، وأبرزهم الكاتب الصحافي الساخر أحمد حسن الزعبي، مطالبتهم بعدم الاستمرار بأي علاقةٍ مع المجرم الصهيوني.
صحيحٌ أن سجن الزعبي جاء تنفيذاً لحكم سابق، بتهم مبنية على مواد فضفاضة في قانون الجرائم الإلكترونية، لكن لتجاهل الحلول القانونية التي قدّمها الدفاع ومطالبات منظمّات دولية بإطلاق سراحه، معنى واحد؛ أن سجن كاتب يتمتّع بشعبية واسعة هو رسالة إلى الجميع؛ وأنه ليس مسموحاً الاعتراض على سياسات ظالمة داخلياً، ولا على استمرار التطبيع مع إسرائيل، ولا على التعاون مع "الناتو" خارجياً.
لا تتعلق المشكلة (حصرياً) باعتقال الزعبي، الذي يعدّ صوت الكادحين والمحرومين، لكن سجنه جعله عنواناً لمرحلة جديدة وخطيرة في الأردن من ضرب الحرّيات، فقد سبقت ذلك جملة من التوقيفات (وبخاصة بين المطالبين بغلق السفارة الإسرائيلية) والاعتقالات لصحافيين وناشطين، مرتكزة على المواد الغامضة نفسها في قانون الجرائم الإلكترونية التي تتيح المجال لإجراءات تعسّفية وأحكام جائرة. وحتى هذه الأحكام، كما يقول حقوقيون، لم تعطِ فرصة لحلول قانونية بديلة من السجن، وبالتالي، أغلقت المجال أمام إطلاق سراح بعض المعتقلين قانونياً، وتركتها مرهونةً بقرار سياسي أو عفو ملكي، أي لا لجوء إلى قضاء أو قانون يزيل الظلم أو ينهي السجن.
جهات في الأردن تحاول فكّ الارتباط مع القضية الفلسطينية، في تيار موجود، ويعبّر عن نفسه بنشر خطاب كراهية ضد الفلسطينيين وضد حركة المقاطعة ومناهضة التطبيع
أضاف تقييد الحريات والاعتقالات أجواء توجس وفقدان ثقة حيال الانتخابات النيابية المزمع إجراؤها في العاشر من سبتمبر/ أيلول المقبل، وزادت من الشعور بأن مجلس النواب المرتقب لن يكون له دور سوى التصديق على سياسات الحكومة، خصوصاً أنه قام على تعديلات في قانوني الأحزاب والانتخابات لتقليص عدد المعارضين، وتشكيل أحزاب جديدة مقرّبة أو مدعومةٍ من أطرافٍ من الدولة. فقد جرت "هندسة" المشهد من تعديلات قانونية واعتقالات لتهميش دور المعارضة الرافِضة للتطبيع مع إسرائيل. لذا، جاء افتتاح مكتب التنسيق لحلف الناتو في عمّان، وفقاً لقرار اتّخذه التحالف العسكري الغربي في قمته أخيراً في واشنطن، ليعمّق شعور الأردنيين بأن الدم المسال والمجازر اليومية في غزّة لم يغيّرا شيئاً في السياسات والتوجّهات، بل زاداها ترسيخاً، وعزّز الشكوك أن مشاركة الأردن في اجتماعٍ مع قيادات عسكرية عربية وإسرائيلية، تحت قيادة قوات المنطقة الوسطى الأميركية في المنامة، هو بداية لترسيم حلف ناتو عربي - إسرائيلي، يهدف إلى دمج إسرائيل في المنطقة، بالرغم من استمرار احتلالها وعملها على اقتلاع الشعب الفلسطيني من وطنه ومحو هويته.
كيف يكون دور للبرلمان أو الإعلام إذا كانت القرارات متّخذة مسبقاً؟ والأسوأ أن الاعتقالات وكل ما سبقها من "تعديلات قانونية" تفيد بأنه لا يوجد اهتمام بصوت الشعب الأردني. وعملياً، لم تُبقِ التضييقات على الحرّيات مجالاً للتعبير أو العمل العام والنقابي الحر، فقد جرى الانقضاض على نقابة المعلمين، وعلى مساحة المشاركة التي كان يقدّمها تاريخياً مجمّع النقابات المهنية حتى في عهد الأحكام العرفية، بعد أن أغلقت السلطات ساحاتٍ ومساحات عامة، مثل ميدان جمال عبد الناصر (دوّار الداخلية) في جبل الحسين والدوّار الرابع في جبل عمّان، أمام الاحتجاجات، وعمل قانون الجرائم الإلكترونية على تقليص حرية التعبير على منصّات التواصل الاجتماعي.
الغريب في المشهد الأردني أنه لا خطر داخلياً حقيقياً على الدولة الأردنية من معارضيها، بل الخطر الحقيقي آتٍ من إسرائيل وأميركا؛ فكيف نفهم تكميم أفواهٍ مناهضة لإسرائيل التي هي مشروع كولونيالي إحلالي يهدف إلى اقتلاع الفلسطينيين من وطنهم ومحو هويتهم العربية، والأردن هو امتداد لفلسطين، وفلسطين هي امتداد للأردن، وأغلب القادة الصهاينة لا يعترفون بقيادة الأردن ولا استقلاله، بل يعتبرونه امتداداً لأرض إسرائيل ويسعون لتحقيق حلمهم. أي إن الأردن بحاجة إلى حماية نفسه من المشروع الصهيوني، والحماية تبدأ بتمتين الجبهة الداخلية، وليس في التأزيم وزيادة الاحتقان، ففي هذا خطرٌ على الجبهة الداخلية. أي إن السياسات الأردنية غير مفهومة من منظور الأمن الوطني وتوحيد الجبهة الداخلية، فلا "الناتو" ولا "ناتو عربي - إسرائيلي" بقيادة أميركا يحمي الأردن، بل يجعله أكثر عرضةً لخرق صهيوني يهدّد أمنه ومستقبله.
التأزيم عنوان المشهد في الأردن، مظهره الأبرز سجن أحمد الزعبي عقاباً له على انتقاد تصريح لوزيرٍ اعتبره استهتاراً بدم الكادحين
لا نعرف بالتحديد عدد الموقوفين أو المعتقلين في قضايا رأي في الأردن، وهو لا يقارن بدول عربية أشدّ قمعاً بمراحل، وقد أُطلِق سراح كثيرين منهم، لكن بعد أن فهم الأردنيون أن من يشارك في الاحتجاجات المعارضة للسياسة الرسمية قد يكون عرضة للتوقيف والتحقيق.
المثير للاستهجان أن هناك جهات في الأردن تحاول فكّ الارتباط مع القضية الفلسطينية، في تيار موجود، ويعبّر عن نفسه بنشر خطاب كراهية ضد الفلسطينيين وضد حركة المقاطعة ومناهضة التطبيع. وليس الحديث هنا عن نقد أو انتقاد، بل عن تحريض ضد الفلسطينيين وضد الناشطين، بدعوى أنهم خطر على الهوية الأردنية. يعمّق هذا التيار التأزيم ويسعى للفتنة التي حذّرت كاتبة هذه السطور منها في مقالها "لمصلحة من إثارة الفتنة في الأردن" في "العربي الجديد" (7/4/2024). وتزيد أجواء القمع هؤلاء عنجهية، في وقتٍ يحتاج الأردن مجتمعاً قوياً متماسكاً ضد الهجمة الصهيونية.
التأزيم هو عنوان المشهد في الأردن، مظهره الأبرز سجن أحمد الزعبي عقاباً له على انتقاد تصريح لوزيرٍ اعتبره استهتاراً بالكادحين وعرقهم، فسجن الزعبي قرارٌ غير مفهوم، بل قصير النظر؛ ألم تتوقع الدولة ردّة الفعل الغاضبة على حرمانه حريته؟ فإذا كانت تريد الإسكات، فقد أثارت استياء موالين ومعارضين على السواء، وأصبح النداء الذي أطلقه الكاتب مفلح العدوان "يا سامعين الصوت أعيدوا لنا أحمد" يتردّد على منصّات التواصل، فلم تستهدف الدولة مبدعاً له شعبية واسعة فحسب، بل استهدفت صوتاً يرفض فكّ الارتباط عن القضية الفلسطينية. فما كتبه في مقاله "تذكّر أنك إنسان" لخّص الزعبي الرد: "جغرافياً أبعد نقطة من شمال الأردن إلى غزة لا تتجاوز 160 كيلومتراً هوائياً، أما المسافة وجدانياً فهي صفر". ... هي رسالة واضحة من إنسان وطني أردني، لن تخنقها جدران السجن، لمن يريد أن يسمع... أو لا يسمع.