تعويم الأسد بين حسابات آنية ومقتضيات استراتيجية

13 يونيو 2023
+ الخط -

السرعة العجيبة التي اتسمت بها الجهود الدبلوماسية العربية لإعادة سلطة بشّار الأسد إلى الجامعة العربية، التي تعاني هي الأخرى من شجونها، وتعيش أزمة بنيوية عميقة، تتمثل في ضعف دورها على المستويين الإقليمي والدولي، إلا في الإطار المناسباتي الوظيفي، أثارت انتباها وتساؤلأ كثيريْن، فهذه السرعة التي قاربت ميزة الـ"الفرط صوتية" التي تروّجها أجهزة الدعاية الروسية والإيرانية في سياق التهويل بمواصفات صواريخ بلديْها القادرة على الوصول إلى أبعد المناطق وفق الأجهزة المعنية. واللافت أن هذا التسارع في وتيرة جهود الانفتاح على السلطة المعنية جاء في أعقاب الإعلان عن التوافق السعودي الإيراني في بكين، برعاية وتشجيع مباشرين من الصين وعلى أعلى المستويات.
ومن الواضح أن الرغبة في تهدئة الأمور في اليمن مع الجانب الإيراني كانت الدافع الأكثر تأثيراً إلى استقبال بشّار الأسد في القمّة العربية بالشكل الذي تم. ويبدو أن دولاً عربية أخرى، العراق مثلا، لها حسابات مختلفة، كانت هي أيضاً في وارد تجاهل محنة السوريين لصالح ترتيب الأوراق مع إيران عبر بوابة الانفتاح على سلطة آل الأسد. وقد سبقت عملية التطبيع العربي الرسمي مع السلطة المعنية جهود تعويمية لها عبر البوابة الإنسانية بعد زلزال 6 فبراير/ شباط 2023. 
 وبالتزامن مع الانفتاح العربي الرسمي على سلطة بشّار الأسد، رغم كل الجرائم التي اقترفتها ضد السوريين، ارتفعت وتيرة الحملات العنصرية الموجّهة التي استهدفت اللاجئين السوريين في كل من لبنان وتركيا؛ وانتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي حملات الشماتة بالسوريين المناهضين لاستبداد سلطة آل الأسد وفسادها؛ وكأن السوريين هم الذين ارتكبوا المجازر بحقّ أنفسهم، ودمّروا بلادهم، وهجّروا الملايين من أنفسهم، وفتحوا البلاد أمام الحرس الثوري الإيراني، والقوات الروسية، والمليشيات المرتبطة بالنظام الإيراني عضويا، بالتسليح والتمويل والتنظيم والتوجيه وتحديد ميادين العمليات والمهام.

روسيا تعاني اليوم من وضع صعب في أوكرانيا يتمثل في إخفاقاتها المستمرّة، ونجاحاتها المحدودة

والأنكى خروج جملة من المحللين الوظيفيين على الملأ ليبشّروا بالعصر الروسي الصيني، وليعطوا انطباعا زائفا مفاده أن السياسة الحكيمة هي التي تكتفي بوضع قدمٍ هنا وأخرى هناك، ومن دون توفير المقدّمات والموجبات التي تهيئ أرضية مادية صلبة لتلك السياسات، عوضاً عن الاكتفاء ببنياتٍ هشّة، والاكتفاء بالتمنيات الرغبوية والتخريجات الشعبوية. فروسيا تعاني اليوم من وضع صعب في أوكرانيا يتمثل في إخفاقاتها المستمرّة، ونجاحاتها المحدودة. وستكون لهذا الأمر تبعاته التي ربما تكون أخطر من التي واجهت الاتحاد السوفييتي بعد الهزيمة في أفغانستان. ومع ذلك، هناك من يوحي بأنه ستكون قوة عظمى، ومن أقطاب العالم الجديد الذي يتحدّثون عنه بحماسة كبيرة هذه الأيام هنا وهناك، من دون الاستناد إلى البيانات الأكيدة، والوقائع الملموسة التي تقدّم المعلومات الموثقة عن حجم الإمكانات الراهنة والمستقبلية لدى الروس والأميركان على سبيل المثال. والمأزق الكبير الذي يواجهه الرئيس الروسي بوتين حاليا في أوكرانيا، خصوصا بعد توارد أنباء الهجوم الأوكراني المعاكس الذي جرى الحديث عنه كثيراً وطويلاً، يذكّر بالمأزق الذي وضع الرئيس العراقي الأسبق صدّام حسين نفسه بنفسه فيه، ولم يتمكّن من الخروج منه رغم  حملته الإعلامية، وتوعّده بسحق كل المتآمرين والأعداء، أما النتيجة فقد كانت كما هي معروفة للجميع.
أما الصين، فالملاحظ أنها تتصرّف بعقلانية محسوبة، لإدركها التام بأن نهضتها الحالية ما كان لها أن تكون، وليس لها أن تستمرّ من دون التكنولوجيا الغربية والأسواق الغربية، والنظام المالي الغربي؛ لذلك هي تبذل جهودا كبيرة في ميدان تحسين شروط الصفقة مع الغرب وسقفها، أما أن تتحوّل إلى البديل المنتظر، فهذا ما تشكّك فيه كل القرائن والمعطيات المتوفرة حالياً.

لا توجد في الأفق أي بوادر توحي بقرب التوصل إلى حلّ سياسي يرتقي إلى مستوى تضحيات السوريين وتطلّعاتهم

والآن، وبعد نحو شهر على إعادة بشّار الأسد إلى جامعة الدول العربية، ما الذي تغيّر؟ الوضع الاقتصادي في جميع المناطق السورية الخاضعة لسلطات الأمر الواقع، بما فيها الخاضعة لسلطة الأسد، من سيئ إلى أسوا. لا توجد في الأفق أي بوادر توحي بقرب التوصل إلى حل سياسي يرتقي إلى مستوى تضحيات السوريين وتطلعاتهم. توحي الأجواء الإقليمية باصطفافات وتموضعات جديدة، ولا سيما بعد ظهور نتائج الانتخابات التركية، واحتمالات التوصّل إلى تفاهمات بين الولايات المتحدة والغرب عموما من ناحية، وتركيا من جهة أخرى، بخصوص ملفاتٍ عديدة، في مقدمتها ملف انضمام السويد إلى حلف الناتو، فتركيا، رغم علاقاتها الوثيقة ظاهريا مع روسيا، تدرك أنها في مواجهة معضلة إذا ما استمرّت في توجهاتها الحالية، فالروس إن فازوا في حربهم على الأوكرانيين سيشكلون خطرا على تركيا نفسها يضغطون عليها من الشمال في البحر الأسود، ومن الجنوب عبر سورية؛ وإن خسروا فهذا معناه أن تركيا ستفتقر إلى الحليف المفروض الداعم لها في تحدّياتها المدروسة للغرب والأميركان. ومن هنا، إعادة مد الجسور مع الغرب، أو ربما بكلامٍ أدقّ، تعزيز هذه الجسور، لأنها لم تنقطع في يومٍ ما، ستكون من بين أولويات الاستراتيجية التركية للمرحلة المقبلة، بعد التحرّر من عبء حسابات العملية الانتخابية. وسيكون مستقبل العلاقة مع سلطة بشّار من بين الموضوعات التي ستتمحور حولها المباحثات والتفاهمات التركية الغربية في المرحلة المقبلة، خصوصا بعد القرار الألماني الذي قضى بإلغاء اجتماع أوروربي عربي، كان من المفترض أن يعقد في برلين في 20 يونيو/ حزيران الحالي. وجاءت عملية الإلغاء بعدما تبيّن للجانب الأوروبي أن وزير خارجية بشّار الأسد سيشارك مع الجانب العربي في الاجتماع، لتكون بمثابة إشارة واضحة تبيّن عدم رضا الأوروبيين عن موضوع التطبيع مع بشّار الأسد وسلطته قبل الوصول إلى حل سياسي بناء على قرار مجلس الأمن 2254، الذي يدعو إلى عملية انتقال سياسي حقيقية وفق مرجعية بيان جنيف 1 عام 2012. وقد أكّد رئيس الوزراء القطري ووزير الخارجية محمد بن عبد الرحمن هذا التوجّه من بلاده مجدّداً في مؤتمره الصحافي مع وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك في الدوحة في 17 من الشهر الماضي (مايو/ أيار)، وكذلك في المؤتمر الصحافي مع وزيرة الخارجية الفرنسية كاترين كولونا في 8 يونيو/ حزيران الحالي، وبين أن مشكة قطر ليست مع سورية، وإنما مع النظام السوري، وأن أساس المشكلة يكمن في العلاقة بين هذا النظام والشعب السوري. وهذا الموقف هو استمرار للموقف المستدام الذي يعبّر عنه أمير قطر دائما في المحافل الدولية والعربية، ويقوم على أن الحل يكون باحترام تضحيات السوريين وتطلعاتهم والالتزام بمرجعية جنيف 1 وقرارات مجلس الأمن، ولا سيما 2254.

الاستعجال، والخضوع للابتزاز مقابل وعودٍ معسولةٍ ضبابية، لن يؤدّيا إلى توازن واستقرار إقليميين منشوديْن

وبالتكامل مع الموقف الأوروبي، جاء تصريح وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن في زيارته للسعودية (6-8 يونيو/ حزيران الجاري)، التي التقى خلالها ولي العهد ووزير الخارجية، ووزارء خارجية مجلس التعاون الخليجي، والتحالف الدولي  لمكافحة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). أكد بلينكن بوضوح تعاطفه مع الشعب السوري، وبيّن أن ما قام به بشّار الأسد ضد السوريين مأساة، وعبر عن أسفه لإخفاقهم في إيقاف المذابح والإساءات التي تعرّض لها السوريون. أما الحل، وفق ما ذهب إليه بلينكن، فيتمثل في تطبيق قرار مجلس الأمن 2254، واحترام تطلعات الشعب السوري. كما تحدّث عن ضرورة محاسبة المسؤولين عن حالات الاعتقال والتغييب، وطالب بإنهاء تجارة المخدّرات. وهذا يؤكّد مجدّدا أن موضوع الحل الذي روّجته دول عربية، انطلاقا من أولوياتها وحساباتها ومصالحها، ما زال بعيد المنال. والجميع يعلم أن الموقف الأميركي في الملف السوري هو الذي ستكون له الكلمة الفصل، وأن الأطراف الأخرى معنيّة بالدرجة الأولى بعملية جمع النقاط استعدادا لصرفها عند الجانب الأميركي الذي يبدو أنه ليس في عجلة من أمره؛ فهو، رغم انشغاله بالحرب الروسية على أوكرانيا وتبعاتها ومسوؤلياتها، ورغم حرصه على مواكبة المتغيّرات والتطورات في الشرق الأقصى ومستقبل العلاقة مع الصين، فما جاء على  لسان بلينكن وغيره من المسؤولين الأميركيين، إلى جانب ما يُستشفّ من الوقائع الملموسة على الأرض، يؤكّد أن الولايات المتحدة ليست في وارد الانسحاب من الشرق الأوسط، لأن فحوى ذلك، في نهاية المطاف، وبصريح العبارة، تسليم الأمور في كل من العراق وسورية ولبنان إلى النظام الإيراني الذي لا يُخفي توجهاته الإمبراطورية على المستوى الإقليمي، الموشّاة بخيط إسلاموي مذهبي. ويتكامل هذا التوجه مع نزوع  بوتين الإمبراطوري تحت شعار الأوراسية الذي يستهدف إضفاء المشروعية على الجهود الروسية الرامية إلى استعادة أمجاد القوة العظمى على المستوى العالمي.
هل ستستمر الدول العربية التي طبّعت مع سلطة بشّار الأسد في مراهنتها الخاسرة على سلطةٍ معروفةٍ بعدم الالتزام بالعهود والمواثيق، بعدما ربطت مصيرها مع مصير نظام ولي الفقيه الإيراني؟ أم أنها ستستدرك الموقف، وتقرّ بأن الحجر الأساس في علاقة بنّاءة مستدامة مع سورية يتمثّل في المراهنة على الشعب السوري، بكل مكوّناته وتوجهاته وجهاته، ومن دون أي استثناء؟ مع العلم أن هذه الخطوة الأخيرة هي التي ستوفّر، من دون غيرها، المقدّمات الموضوعية لتفاهمات وتوافقات إقليمية، تحتاج إليها منطقتنا اليوم أكثر من أي وقت مضى. أما الاستعجال، والخضوع للابتزاز مقابل وعودٍ معسولةٍ ضبابية، فلن يؤدّيا إلى توازن واستقرار إقليميين منشوديْن اليوم أكثر من أي وقت مضى، حرصاً على مستقبل شبابنا وأجيالنا المقبلة.

8801BA5A-2E79-4DFD-ACA8-06C922BECC8F
8801BA5A-2E79-4DFD-ACA8-06C922BECC8F
عبد الباسط سيدا

كاتب وسياسي سوري، دكتوراه في الفلسفة، تابع دراساته في الآشوريات واللغات السامية في جامعة ابسالا- السويد، له عدد من المؤلفات، يعمل في البحث والتدريس.

عبد الباسط سيدا