تعقيدات المشهد التونسي
انتهت الانتخابات التشريعية التونسية على فضيحة لخيارات الرئيس قيس سعيّد. نسبة تصويتٍ لم تتجاوز 9%، من المفترض أن تكون كفيلة بإيقاظ الرئيس التونسي من أحلام اليقظة التي يعيشها، وأوهام قدرته على التفرّد في الحكم، بشكل أسوأ مما كان يفعله زين العابدين بن علي. لكن لا يبدو أن "الرئيس الفرد" في وارد التراجع عن خياراته، وبدأ هو ومريدوه في سوق التبريرات التي دفعت التونسيين إلى الاعتكاف عن التوجّه إلى صناديق الاقتراع. وهي بالمجمل تبريراتٌ لا تحمل أياً من عناصر الإقناع، سواء عبر إلقاء اللوم على حملات المعارضة "الممنهجة" لشيطنة الانتخابات، أو إلقاء اللوم على هيئة الانتخابات التي أسّسها سعيّد، وحتى تحميل الظروف الاقتصادية والاجتماعية مسؤولية تراجع التونسيين عن الانتخابات، تحمل إدانة للرئيس التونسي نفسه، باعتباره مسؤولاً عما وصلت إليه البلاد من تردٍّ اقتصادي واجتماعي.
والتبرير الأكثر إثارة للجدل جاء من رئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، فاروق بوعسكر، والذي فسّر ضعف نسبة المشاركة بأنه "نتيجة غياب المال السياسي الفاسد والأجنبي وغياب استعمال التمويل العمومي"، وفق تصريحه، وكذلك "بتغيير القانون الانتخابي واعتماد نظام الاقتراع على الأفراد، إضافة إلى تأثير دعوات المقاطعة الصادرة عن عدد من الأحزاب ومكونات المشهد السياسي في تونس". بوعسكر هنا، وضع كل التونسيين في خانة المرتشين، سواء المصوّتين للمعارضة أو حتى الذين انتخبوا سعيّد خلال الاستحقاق الرئاسي. ووفقاً لهذا المنطق، وصل الرئيس إلى منصبه أيضاً بطريقة غير شرعية.
بغض النظر عن كل التفسيرات والاتهامات التي أطلقها، ويطلقها، سعيّد وأنصاره، لا يمكن إلا اعتبار أن هذه الانتخابات ونسبة المشاركة فيها مثلت رسالة قوية إلى النهج الذي يسير عليه الرئيس التونسي. رسالة من المفترض أن تحمل أبعاداً أكبر، في حال كانت الظروف التي تعيشها تونس عادية. غير أن الأزمات المعيشية من الممكن أن تحول دون تحوّل هذا الرفض الشعبي إلى حراك مثمر، هذا إضافة إلى أن المعارضة التي تأسست على خلفية قرارات سعيّد، لا تزال بعيدة عن تكوين جبهةٍ موحدةٍ تضع إنقاذ الديمقراطية التونسية في مقدّمة سلم أولوياتها، فالتجارب التي عاشتها السياسة التونسية بعد إطاحة بن علي وما تلا ذلك من خلافاتٍ على الحكومات والانتخابات، لا تزال حاضرة في المشهد السياسي الحالي، رغم اختلاف المعطيات، وتوحّد الرؤى على ضرورة وقف الرئيس التونسي من المضي قدماً في خياراته.
حالة سياسية كهذه، تدفع بعضهم إلى اقتراح حلول حوارية تشمل الرئيس التونسي، عبر دعوته إلى حوار وطني لا يُقصي أحداً. وبغض النظر عن استجابة الرئيس لمثل هذه الدعوة، وهو لن يفعل، فإن اعتبار سعيّد ضامناً أي حوار وطني، بعد كل ما قام به في الأشهر القليلة الماضية، يعدّ ضرباً من الجنون، خصوصاً أن مثل هذا الحوار لن يفيد إلا سعيّد، إذ سينجح في إعادة ترميم صورته، وإظهار نفسه ضامناً للوحدة الوطنية، وبالتالي يستطيع في أي لحظة الانقلاب مجدّداً على كل المؤسسات أو الاتفاقات التي قد تنتج عن مثل هذا الحوار، والعودة إلى النقطة صفر. فإذا كان لا بد من حوار، فهو يجب أن يكون بين أطراف المعارضة الحالية لسعيّد للخروج بموقف موحد والاستفادة من النقمة الشعبية على الرئيس، والتي ظهرت في الانتخابات ونسب تصويتها.
الوضع السياسي التونسي، ومع نتائج الانتخابات والبرلمان المرتقب أن يصدر عنها، يزداد تعقيداً، خصوصاً في ظل التعنّت الذي يمارسه الرئيس وانفصاله عن الواقع، وعدم قدرة المعارضة على اجتراح خطواتٍ ناجعةٍ لمواجهة تفرد سعيّد، والذي سيتضاعف مع إحكام قبضته على السلطة التشريعية.