تعقيبا على سمير الزبن عن "وهم الاستثناء الفلسطيني"
تحت عنوان "وهم الاستثناء الفلسطيني"، نشرت "العربي الجديد" (31/10/2020) مقالاً للكاتب الصديق، سمير الزبن، ينتقد فيه مبالغة الفلسطينيين في "الادّعاء بالتميز الذي يصل أحياناً إلى ادّعاءٍ عنصري بالتفوق الفلسطيني"، من ناحية بنيتهم الاجتماعية وديمقراطية تقاليدهم السياسية مقارنة مع محيطهم العربي. وهو إذ لا يخفي احترامه التجربة الفلسطينية "التي اخترعت الهوية من العدم، وفي شروط صعبة ومجحفة ومعقدة"، يؤكّد على أن "ليس هناك من سببٍ للادّعاء بهوية وطنية فلسطينية ناجزة بمواصفات مطلقة الجودة وعالية المردود"، حيث أثبتت تجربة "أوسلو" وتشكيل السلطة الوطنية الفلسطينية، والصراع الدموي بين حركتي فتح وحماس، أن الهوية الفلسطينية إلغائية إقصائية، وأبرزت نمو الهويات الجزئية واستقطابها الفلسطينيين، وتمترسهم حولها على حساب الهوية الوطنية الجامعة التي تبدّت بوضوح هشاشتها وتفكّكها، مثلما تبدى وهم ما يقال عن ديمقراطية التجربة الفلسطينية، حيث تبين أن هذه التجربة لا تختلف عن سواها من التجارب العربية، من حيث القمع والاستبداد وافتقاد العلاقات الديمقراطية وهيمنة الولاءات ما قبل الوطنية. لا شك أن ادّعاء أي شعبٍ بتمايزه النوعي عن غيره من الشعوب خاطئ، لا يمتّ للحقيقة بصلة، فالإنسان هو الإنسان أينما وجد، واختلاف الظروف هو الذي يفعل فعله في تطور المجتمعات وتمايزها، فليس ثمّة مجتمعات، ولدت متميزة، أو بقيت محافظة على تمايزها، فالتميز لا يأخذ منحىً تصاعديا على طول الزمن، ولنا في انهيار الحضارات، وانتكاس الأمم، شواهد على ذلك.
نظرة الفلسطينيين إلى ذاتهم اعتداد بالنفس، ودهشة مما أنجزوه على صعيد هويتهم ومقاومتهم بعد عقود من النكبة وتداعياتها
لكن، لا بد التمييز بين ذلك الشعور المبالغ به لشعبٍ ما بالتميز أو بالتمايز عن غيره، وما يخفيه ذلك من سماتٍ عنصرية، وبين اعتداد الشعب بنفسه واحترامه ذاته، فأن يشعر الألمان، على سبيل المثال، أنهم حققوا معجزةً بتجاوز ما دمرته الحرب العالمية الثانية شيء، وأن يكون ذلك مدعاةً لتكريس مقولة إن ذلك بفضل عرقهم وذكائهم الخارق، شيء آخر. من هنا، وبخلاف سمير، أميل إلى توصيف نظرة الفلسطينيين إلى ذاتهم أنها اعتداد بالنفس، ودهشة مما أنجزوه على صعيد هويتهم ومقاومتهم بعد عقود من النكبة وتداعياتها. ينطبق الأمر نفسه على شعوب الربيع العربي، والتي ربما فوجئت، قبل غيرها، بما فعلته، فكان طبيعيا، شعور التونسييين والمصريين بالتمايز، بسبب نجاحهم في الخلاص من طغاتهم. كذلك كان حال السوريين بعد اندلاع ثورتهم.
يكتب سمير "هكذا هي صورة الفلسطينيين عن أنفسهم، شعب أسطورة. لذلك، لم يكن غريبًا، في السابق، أن تدّعي قوى سياسية فلسطينية مهماتٍ فلسطينية بتغيير العالم العربي كله، وأحيانًا بتغيير العالم، وقد استضافت الفصائل الفلسطينية عشرات القوى والحركات السياسية من كل العالم في بيروت عندما كانت تسيطر عليها قبل حرب عام 1982". ربما تكون تجربة المقاومة الفلسطينية في الأردن هي الوحيدة التي تدعم ما ذهب إليه سمير من سعي قوى فلسطينية إلى التغيير في المنطقة العربية. صحيحٌ أن المقاومة الفلسطينية كانت لاعباً أساسياً على الساحة اللبنانية، بحكم تنامي قوتها العسكرية، وتحالفها مع الحركة الوطنية، وضعف الدولة المركزية. ولكن ضيوف المقاومة في لبنان لم يكونوا فقط قوى سياسية وحركات تحرّر، بل كانوا أيضاً مثقفين ونخبا انجذبوا للتجربة الفلسطينية، ووجدوا في لبنان ما افتقدوه في بلدانهم من حرية تعبير وصحافة حرة و... إلخ.
ربما تكون تجربة المقاومة الفلسطينية في الأردن الوحيدة التي تدعم ما ذهب إليه سمير الزبن من سعي قوى فلسطينية إلى التغيير في المنطقة العربية
جميعنا يذكر، وسمير الزبن طبعاً، أن المرحلة التي وجدت فيها المقاومة الفلسطينية في لبنان كانت تتميز بانقسام العالم إلى معسكرين، غربي تتزعمه أميركا، ويدعم إسرائيل، وشرقي، يتزعمه الاتحاد السوفييتي، ويدّعي دعمه حركات التحرّر. وبسبب انحياز المقاومة الفلسطينية للمعسكر الشرقي، وفي ظل هيمنة خطاب مواجهة الإمبريالية، ووحدة نضال حركات التحرّر في العالم، فقد كان طبيعياً أن تبني المقاومة علاقاتٍ وثيقةً مع القوى والأحزاب التي تنتمي للمعسكر نفسه، وأن تتحالف مع جميع حركات التحرّر. لكن مشكلة القوى الفلسطينية أنها كانت براغماتية في تحالفاتها. ولم يكن حديثها عن الشعوب سوى ذرّ للرماد في العيون. فتحت ذريعة عدم التدخل في الشؤون الداخلية، تنصّلت من الانحياز لمطالب الشعوب العربية، في الخلاص من الاستبداد وتحقيق العدالة. بل إنها، بنت أفضل العلاقات مع الأنظمة العربية الحاكمة. وبذلك تكون القوى الفلسطينية منسجمةً مع ذاتها، ومع بنيتها اللاديمقراطية الشبيهة، بهذا القدر أو ذاك، بتلك الأنظمة، فالقادة والأمناء العامون باقون إلى الأبد، حالهم في ذلك حال الحكام العرب. وكما أشار سمير الذي أجد نفسي متفقا معه، جاءت اتفاقية أوسلو وتداعياتها والصراع الدموي بين حركتي فتح وحماس ليكشف هذا كله وهم الديمقراطية في التجربة الفلسطينية، وليعلي من شأن الهويات الجزئية على حساب الهوية الوطنية الجامعة. ولكن ما أجد ضرورياً التشديد عليه أن هوية أي شعب ليست منجزا ثابتا ونهائيا، بل هي في حالة حركة وتغير دائميْن. وبقدر ما تبدو موحدة ومتماسكة في فترة تاريخية ما، بقدر ما تتعرّض للتشقق والتشوّه في ظروف أخرى. والعكس صحيح. انظر إلى حالة ألمانيا التي انقسمت إلى شرقية وغربية بعد الحرب العالمية الثانية، وتداعيات هذا الانقسام على صعيد هوية الألمان في شطري بلدهم. ثم لننظر ماذا حصل بعد أن استعادت ألمانيا وحدتها في العام 1990. من هنا، حديث سمير عن نسيج اجتماعي، فلسطيني أو عربي، ينتج هويات إقصائية إلغائية، من دون الإتيان على دور السلطات المسيطرة والحاكمة، يشير إلى أن ثمّة مرضا غير قابل للشفاء تعاني منه المجتمعات العربية، وضمناً المجتمع الفلسطيني. وأن هناك تماهيا بين السلطة والشعب، وبين الحاكم والمحكوم، وبالتالي يصبح صحيحاً القول "مثلما تكونوا يولّى عليكم"؟!
ضروري التشديد على أن هوية أي شعب ليست منجزا ثابتا ونهائيا، بل هي في حالة حركة وتغير دائميْن
ولكن ما كتبه سمير الزين في مقال لاحق "استجابات الهوية المهدّدة" ("العربي الجديد"، 6/11/ 2020) يناقض هذا الكلام، وربما يزيل التباس الفهم لدي، حيث يشير إلى وجود أزمات حادّة في هوية المجتمعات الأوروبية، ويبين أن دعوات الانغلاق على الذات، واستعادة الهويات القديمة، أي بناء الهوية بالاتكاء على الماضي واستحضاره، بما في ذلك العادات المتخلفة والتقاليد البالية، إنما هي نتيجة انسداد الأفق وغياب العدالة، والتي تتحمل مسؤوليتها الأنظمة الحاكمة.