تعدّد الزوجات .. والهويات
كم ألف مرّة يلزمنا مناقشة تعدّد الزوجات لنصل فيه إلى شبه حسم؟ وكم ألف مرّة يلزمنا مناقشة الهوية المصرية، مفاهيمها، وطبقاتها، ودوائرها، وموقع "الفرعونية" منها، وهل نحن عرب أم مسلمون أم فراعنة أم شرق أوسطيين (أم منايفة)؟. ثمّة موضوعات أخرى، محدّدة سلفاً، بالمراس والتجربة، حافظة "جراب حاو" لا يخيب من استدعاها، حيناً بغرض الإلهاء، وأحياناً أخرى بغرض ركوب "التريند" وزيادة المتابعين، أو يأتي النقاش عفوياً، كما هو الحال الآن، في تقديري. وأيًا كانت أسباب الجدل فإنّ الحلّ في تجاوز هذه الموضوعات إلى ما هو أهم، ليس تجاهلها، أو اتهامها بأنّها أداة إلهاء، وهو اتهام له وجاهته، إنّما حسمها. وأول أسباب عدم الحسم، في تقديري، هي أننا نبدأ النقاش من "مرحلة ما قبل البديهيات"، ما قبل الخبرة التراثية، ما قبل التاريخ، والجغرافيا، فإذا عجزنا عن قراءة "تذكرتين" على طريقة سعيد صالح في مسرحية "العيال كبرت"، بدأنا من "زَرَعَ" أول مقرّر اللغة العربية، ربما نصل، بالمصادفة، إلى ما نريد، وطبعاً لن نصل إلى شيء.
لا يعدو التعدّد، أو الفرعونية، أو غيرهما، سوى مجرّد أمثلة. في التعدّد مثلاً، ثمّة بديهيات، لا يختلف حولها قارئان، ولو على خفيف، للتراث وإضاءاته في المسألة، الأولى أن تعدّد الزوجات موجود، قبل الإسلام، لدى العرب وغيرهم، حالة عالمية، والأمثلة أكبر من المساحة، تتّسع باتساع خريطة الكوكب، وكان العدد مفتوحاً عند العرب، غير مقيد، أسلم كثيرون، وعلى ذمّتهم سبع زوجات... عشر زوجات، وربما أكثر، زرع الإسلام، كعادته، بذرة المثال، لكنّه تعامل، في حينها، مع الواقع، انحاز لتحجيم التعدّد، لا إطلاقه أو إقراره، ووضع حوله شروطاً تزيد من تحجيمه؛ الخوف من عدم العدل، مجرّد الخوف، يجعل التعدّد غير مباح، وانتصر للزوجة الواحدة، وأوصى بها، وتلقّى الرسالة فقهاء، عبر التاريخ، فانتصر أكثرهم، بدورهم، للزوجة الواحدة، الأصل واحدة، والتعدّد استثناء، محاط بالشروط والتعقيدات والتخويف. ثمّة بديهياتٌ أخرى، يضطرّنا النقاش الدائر على مواقع التواصل إلى الإشارة إليها، على الرغم من وضوحها لأيّ "عيّل" صغير، وهي أنّ التعدّد مباح، حكمه "مباح" اختيار، ليس أمراً، ليس فرضاً. لم يقدّم الإسلام أيّ خطاب، من أيّ نوع، في القرآن أو السنة، للتشجيع على التعدّد، بل حاصره وقيّده، وجفّف منابعه، قدر احتمال الواقع، وكان "اتجاه الوحي" واضحاً في ذلك، وبديهي. أخيراً، الاقتراحات بقوانين تحظر التعدّد، وفق وجهات نظر مختلفة، هو أيضاً اختيار متاح، ليس تجاوزاً للشرع، كما قرأنا وتابعنا في الأيام الماضية، وليس كفراً، كما زعم آخرون. تقييد المباح، للمصلحة العامة، وفق أدبيات تراثنا، لا وفق رؤية النسويات المعاصرات، حقٌّ لولي الأمر، وهو هنا ليس بالضرورة الحاكم، ليس عبد الفتاح السيسي أو غيره، إنما المسؤول عن "الملف": البرلمان، المجتمع المدني، علماء الاجتماع، الشيوخ، النخب، جميعهم، وفق ما نرى، ونتوافق، ونقرّر. ووفق مصالح الناس، هذا لو افترضنا وجود بيئة صحية للنقاش، وهي هنا، بكلّ تأكيد، غير موجودة، إنّما أتحدّث عن الأصل وليس الواقع المرير.
الأمر نفسه ينطبق على الكلام عن "الفرعونية" بوصفها هويتنا الوحيدة، في مواجهة الهوية العربية والإسلامية، في خطابات خصومها. البديهية الأولى: الهويات تتقاطع، تتكامل، ولا تتصارع. الثانية: لم يعد من "الفرعونية" سوى "الذكرى"... ذهبت الأفكار، وبقيت الأحجار شاهدةً على عظمتهم، لا استمرارهم. الفراعنة أجدادُنا، ونحن نفتخر بهم، لكنّنا لا نعرفهم؛ اللغة، العلوم، الأديان، الثقافة، ثمة انقطاع حضاري، بتعبير أرنولد توينبي، وليس أبو اسحاق الحويني! البديهية الثالثة: لا تعني عداوة الإسلاميين الطفولية للمكون الفرعوني في الشخصية المصرية أن نبالغ في استدعائه حد الادّعاء بأنّه وحده يشكل هويتنا. وهو، في حقيقته، أكثر مكوّنات الهوية غياباً عن المكان. وبعداً عن الزمان، وعدم صلاحية لكليهما. البديهية الأخيرة: الاختلاف في زماننا هوية. الخبز والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية هوية. وما يعزّز هويات الحاضر والمستقبل من هويات الماضي هو، وحده، الجدير بالبحث والدرس والاستدعاء، بشرطٍ بديهي: وجوده أصلاً.